Sunday 19 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: "المؤثرون" من الرأسمال الرمزي إلى رأسمال الانتباه

عبد السلام بنعبد العالي: "المؤثرون" من الرأسمال الرمزي إلى رأسمال الانتباه عبد السلام بنعبد العالي
من قناة جانبية إلى المنصة الرئيسة
 
مصطلح "المؤثرين"، الذي يصاغ عادة على هذا النحو بصيغة الجمع، أصبح يطلق في السنوات الأخيرة على شريحة من الأشخاص الذين يملكون حضورا قويا في المنصات الرقمية، ويعرفون بقدرتهم على صناعة "الأحداث"، والتأثير في الرأي العام، أو في أنماط الاستهلاك أو حتى في الذوق الثقافي.

كلمة "Influencer" في الأصل كلمة تسويقية، تشير إلى من له تأثير على سلوك المستهلك. الترجمة العربية توسع من فعل "التأثير" الذي لا يعود يقتصر على البيع والتسويق، بل يطول القيم والأنماط الاجتماعية.

"المؤثر" نتاج "اقتصاد الانتباه" Attention Capitalism، حيث يحول الشخص ذاته إلى منصة، ويصبح سلعة في ذاته. تأثيره مبني على علاقات افتراضية (متابعون/مشاهدات) أكثر من كونه سلطة فكرية أو فنية. فنحن، بالتالي، أمام نوع من "تسليع للذات" و"مسرحة للحياة اليومية". كل فعل، وكل إحساس يصبح قابلا للتصوير والاستهلاك، وموضوعا للتأثير.

 

إدارة الصورة

في السابق كانت الرموز الثقافية تكتسب عبر إنجاز فكري أو فني أو موقف أخلاقي، أما "التأثير"، فهو يكتسب اليوم عبر القدرة على إدارة الصورة والظهور المستمر، حتى لو كان المحتوى هزيلا أو فارغا. هذا التحول يطرح سؤالا حول صدقية "التأثير": فهل التأثير حقيقي أم هو مجرد خوارزميات توزع الانتباه؟

نحن أمام ظاهرة تفريغ للسلطة الرمزية: فسلطة "التأثير" تقاس كما بعدد المتابعين، وغزارة "اللايكات"، وليس بعمق التحليل ودقته. فحين نقارن "المؤثر"، كما هو اليوم، بما كان عليه "تأثير" المثقف أو السياسي أو النقابي، نلاحظ أن تأثير هؤلاء لم يكن مجرد صفة إحصائية أو رقمية، بل كان مشروطا ببنية اجتماعية كاملة. المثقف يستمد تأثيره من رأسمال رمزي (معرفة، فكر، إبداع، قضية، مواقف أخلاقية)، هذا ما يمنحه شرعية مستقلة عن الجمهور المخاطب، أما السياسي فيستمد تأثيره من سلطة التمثيل (انتخابات، حزب، جهاز دولة)، في حين يكتسب النقابي تأثيره من كونه "متحدثا باسم" طبقة، أو مهنة، أو حركة. هؤلاء الثلاثة مرتبطون بــ"هيئات" أو مؤسسات تمنحهم إطارا ومشروعية، أما المؤثر فيحصل على "شرعيته" من عدد "المتابعين". إنه مشروع فردي قائم على بناء صورة ذاتية.

فضلا عن ذلك، فإن علاقة المثقف والسياسي والنقابي بمن يخاطبه تتضمن بعدا نقديا: المثقف قد يخاطب الجمهور ليعلو به من اللحظة الآنية إلى أفق أوسع، والسياسي يقدم برنامجا ليحاسب عليه في ما بعد، أما النقابي فيفاوض باسم جماعة حول ملفاتها المطلبية. أما في حالة "المؤثر" فإن العلاقة تبادلية أكثر منها نقدية: محتوى مسل محفز ومثير، مقابل انتباه عدد من المتابعين والمعجبين، من غير حاجة لا إلى عقد اجتماعي ولا تمثيل ولا التزام.

في كتابه "مجتمع الشفافية"، يكتب المفكر الكوري الناطق باللغة الألمانية هان بيونغ تشول: "التواصل الرقمي يزيل أي شكل من أشكال السلبية. فهو يقوم على الإجماع والمطابقة والإيجابية". على عكس ما هو شائع اليوم من تمجيد لـ"الإيجابية"، يعيب هان على هذا التواصل كونه "يقضي على أي شكل من أشكال السلبية"، مشكلته لم تعد تكمن في القمع، بل في تشبع الحرية، تلك الحرية التي تدفع الفرد إلى مسرحة ذاته، وعرضها، وتسويقها. هذه الإيجابية الدائمة تصبح سامة: فهي تلغي الاختلاف الضروري للفكر النقدي وتنتج أفرادا

المثقف يمارس فعله من أجل "معنى" أو "قضية" (العدالة، الحرية، التنوير…)، والسياسي يسعى إلى "تغيير السياسات" أو الوصول إلى السلطة، والنقابي إلى تحسين شروط العمل أو الدفاع عن الحقوق، أما "المؤثر" فيكتفي بـ"رأسمال انتباه" يتحول إلى "رأسمال نقدي" أو إلى شهرة، أي أن التأثير غاية في ذاته لا وسيلة لقضية أخرى.

 

فضاء مفتت

المثقف والسياسي والنقابي يعملون داخل فضاء عمومي يفترض فيه "نقاش عقلاني" نسبيا (صحف، منابر، أحزاب، نقابات)، أما المؤثر فيعمل في فضاء افتراضي مفتت، متسرع، موجه بالخوارزميات حيث الانطباع اللحظي أهم من الحجة، وحيث استفزاز الانفعالات أجدى من الإقناع، وحيث "التأثير" أبلغ من العمل.

تأثير المثقف والسياسي منبعه موقع اجتماعي ومشروع عام، أما تأثير "المؤثرين" فهو نتاج لصناعة فردية للذات في اقتصاد الانتباه. هذا ما يفسر الطابع الزائل والهش للتأثير الجديد مقارنة بتأثير مثقف أو سياسي قد يترك أثره لعقود.

من أين يستمد المؤثر موضوعاته أو "محتوياته"، كما يقال في هذا السياق؟ الجواب الذي يتبادر إلى الذهن هو أن نقول: من "مستجدات" الأحداث اليومية، أي ما يطلق عليه المؤثرون: "الروتين اليومي". إلا أننا، إذا نظرنا عن قرب إلى ما يحدث في المنصات، نجد أن المؤثر يستمد موضوعاته و"قضاياه" أساسا مما يطرحه أنداده، لا مما يكتشفه أو يتحقق منه بنفسه. فهو يكاد يعيش على الشائعات والتعليقات والتسريبات و "التأثيرات"، أكثر مما ينقل أخبارا أو معلومات موثوقا بها. لذا فإن قسطا كبيرا من "التأثير" لا يكون موجها الى جمهور ثالث بقدر ما هو موجه لمجتمع المؤثرين أنفسهم. المؤثر ينشر "محتوى" يراه مؤثرون آخرون فيعيدون إنتاجه أو الرد عليه أو تقليده، كل واحد يتغذى من الثاني في شكل "ترند". كأن المؤثرين يستهلكون أنفسهم. فبدلا من "التأثير في الآخر" نكون أمام "تأثير في صورة التأثير"، تأثير "انعكاسي". المؤثر يسعى لأن يبدو مؤثرا في أعين مؤثرين آخرين، أكثر من سعيه لإحداث تحول عند المتابعين و"الفعل" فيهم. نلمس هذا في ما قد يحصل من جدال بين المؤثرين، وهو جدال يتخذ، في بعض الأحيان شكلا حادا.

في هذا الإطار تنشأ تواطؤات و"تعاونيات" واستضافات متبادلة بهدف تبادل رأسمال الانتباه بين المؤثرين أنفسهم، أو توزيعه بينهم. الجمهور هنا مجرد وسيط يمنح الأرقام، لكنه لا يكون بالضرورة هو موضوع التغيير أو حتى التأثير.

 

تدوير اللحظة

هناك تأثير ضخم في المؤشرات، في المشاهدات، والإعجابات، لكن الأثر في الواقع الاجتماعي والثقافي خارج المنصات شديد الضعف. فنحن إزاء ما يشبه سوقا مغلقة، حيث تباع وتشترى الرمزية بين لاعبين مكررين. كأن "التأثير" ليس انتقالا لقيمة أو فكرة، بل "إنتاج دائري" لصورة التأثير ذاتها.

في هذا المعنى، ليس المؤثر منتجا لمعرفة، أو مدافعا عن موقف، بقدر ما هو يعيد تدوير موجات اللحظة، يلتقط ما يتداول بين المؤثرين ثم يعيد صوغه في شكل "محتوى". النتيجة أن "القضية" نفسها تصبح سلعة للترند، لا موضوعا للتحقيق أو التحليل.

ذلك أن "المؤثرين" يؤثرون لأن البنية التقنية – الاقتصادية للمنصات جعلت منهم صانعي رأي بحكم امتلاكهم أدوات الوصول، لا بحكم امتلاكهم مضمونا أعمق. في الوقت نفسه أضعفت أو تفككت المنابر التقليدية التي كان يتحرك فيها المثقف والسياسي. ما يفعله المؤثر الرقمي اليوم ليس بالضرورة "إقصاء" لهذين الفاعلين، بل هو تغطية رمزية عليهما، وإزاحتهما من منابر صناعة الرأي العام، كأنما يعمل على تضييق المساحات التي كان يفعل فيها المثقف والسياسي.

في ما قبل، كان الطريق إلى الجمهور يمر عبر الصحافة، والكتب، والأحزاب، والأعمال الفنية من سنيما ومسرح، فكانت هذه كلها فضاءات منظمة تمنح المثقف أو السياسي حضورا متواصلا، أما اليوم فالطريق أصبح يمر عبر المنصات الخاضعة للخوارزميات، حيث يمتلك المؤثر ميزة السرعة وخفة المحتوى، بينما يظل إنتاج المثقف والسياسي "ثقيلا" بطيئا لا يصل إلى دائرة الضوء نفسها إلا متباطئا متأخرا.

هذا فضلا عن أن تراجع حضور المثقف والسياسي أصبح اليوم مرتبطا بضعف المؤسسات التي كانت تمنحهما الشرعية، كالنقابات، والأحزاب، والصحف، والجامعات. كأن المؤثر لا يعمل، في حقيقة الأمر، إلا على ملء هذا الفراغ الذي خلفه فتور هذه المؤسسات. هذا ما جعله اليوم هو الوجه الأكثر بروزا في المشهد العام، حيث انتقلت صناعة الرأي إلى يد "المؤثرين" الذين يجيدون لعبة الصورة والانتشار. إلا أنها هيمنة في مجال الصورة واللحظة، لا في مجال الفعل والتغيير العميق الذي يتطلب الزمن لكي يترسخ ويعمل عمله. فالرأي الذي يصنع اليوم عبر المؤثرين هو في الغالب رأي لحظي: موجات غضب، حملات تضامن، ترندات، موجات قصيرة العمر، انفعالات جماعية، فقاعات سرعان ما تذوب، أكثر منها مواقف أو تصورات راسخة كما كان الحال زمن المثقف والسياسي. فحتى إن سلمنا بأن المؤثرين هم من صاروا اليوم يصنعون الرأي العام، فهم لا يصنعون إلا "رأيا عاما" من نوع جديد، رأيا عاما متقلبا، سريع الزوال، بلا كثافة ولا ذاكرة.

ذلك أن المنصات الرقمية والاتصال الفوري جعلت الزمن يعاش اليوم لا كخط متصل بل كسلسلة نقاط أو إشعاعات وومضات: إشعار، خبر عاجل، ترند، ستوري ينقضي تأثيره فور نشره.

 

مواكبة اللحظة

لم يعد هناك "حدث" ينتظر ويتوقع، ثم يحلل ويكتب عنه بعد فترة من الزمن، بل هناك مواكبة آنية بلا توقف ولا مسافات. موعد ظهور المؤثر موعد مضبوط، وهو لا يأتي ليحلل ما جرى، بل يستبق ما سيعلق عليه، ثم يأخذ في البحث عن محتوى حلقته. هذا التفتيت للزمن أنتج حاجة جديدة، أي الحاجة إلى من يواكب اللحظة لحظة بلحظة. فبينما كان المثقف والسياسي يقدمان إطارا تفسيريا، ورؤية مستوفية أو برنامجا طويل المدى، وتحليلا بعديا، برز هذا الكائن الإعلامي الجديد الذي يستبق الحدث، بل يفتعله ويضخمه، كي يكتفي بالتعليق السريع، والتفاعل التلقائي، والمشاركة "العاجلة". المهم هو البحث عن "محتوى"، عن "مادة جديدة" تملأ الفراغ وتصطاد لايكات الشبكة. هذا الحضور اللحظي قد يمنح المؤثر سلطة رمزية لحظة "الحدث"، لكنه في الوقت نفسه يجعله هشا سريع الزوال.

إن كان المؤثر لا يؤثر في الواقع الفعلي، فهو يؤثر أشد التأثير في الواقع الإعلامي حتى لا نقول إنه يحتكره. فما كان يعتبر في السابق مجرد قناة جانبية أصبح اليوم هو المنصة الرئيسة لصناعة الصورة وخلق الحدث. إذا كان رؤساء الدول، حتى وقت قريب، يصدرون مواقفهم عبر بيانات رسمية مدروسة، تمر بقنوات معروفة، أو مؤتمرات صحافية، فإننا أصبحنا نراهم اليوم يقلدون المؤثرين فيعلنون مواقفهم، مهما كانت خطورتها، على منصاتهم الشخصية، وهذا حتى قبل أن يصاغ بيان رسمي عن تلك المواقف.

لا يعكس هذا فحسب "تبسيطا" للغة، وتيسيرا للتواصل، بقدر ما يدل على تغير في تصور مواقع التأثير، واقتناع بأن "الرأي العام" يتشكل أولا على منصات التأثير. هكذا يدفع رأس السلطة نفسه نحو إيقاع المؤثرين: سرعة، وحضور مستمر، ولغة مختزلة، وانفعال مباشر، وتسابق نحو "العاجل". فيغدو الرئيس نفسه "مؤثرا كبيرا" يتنافس على الانتباه مثل غيره، لا رأس مؤسسة متروية ذات إيقاع مختلف. وهكذا "ينزل" أشد القرارات خطورة إلى مجرد "محتوى" وسط فيض "المحتويات" التي تعج بها منصات المؤثرين، فيصبح متداولا في فضاء اللحظة، ويفقد شيئا من قوته التشريعية، ورمزيته المؤسسية، وطول نفسه التاريخي.

عن مجلة:" المجلة"