في خضم التحولات العميقة التي تعرفها العدالة المغربية، يظل الحديث عن تمتين استقلال السلطة القضائية رهينا بترسيخ الضمانات المادية والاجتماعية للقضاة، إذ لا يكتمل استقلال الضمير القضائي إلا إذا توافرت له البيئة الاجتماعية الحاضنة، التي تصون هيبة المنصب وتضمن كرامة القاضي في معيشته كما في ممارسته.
ومن هذا المنطلق يبرز مطلب إنشاء مؤسسة اجتماعية موجهة حصرا لخدمة القضاة وأسرهم، باعتبارها صمام أمان لاستقرارهم الأسري والنفسي، وضمانا مكملا لاستقلالهم المهني.
إن هذه المؤسسة لا ينبغي أن تكون مجرد إطار تضامني محدود الأثر، بل مؤسسة قائمة الذات، تحمل رؤية استراتيجية في تدبير الجوانب السكنية والصحية والترفيهية والتعليمية لأبناء القضاة، بما يليق بمقام السلطة القضائية كسلطة دستورية مستقلة. فتمكين القضاة من فضاء اجتماعي خاص، ينعكس إيجابا على مردودهم المهني، ويحد من الهواجس المعيشية التي قد تمس طمأنينتهم الداخلية، وهي الطمأنينة التي اعتبرها الفقه المقارن شرطا جوهريا لاستقلال القاضي.
ويُسجَّل للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حرصه المستمر على صيانة كرامة القاضي وتحسين أوضاعه، غير أن المطلب اليوم يتجاوز المقاربة الجزئية إلى رؤية شمولية تجعل من “المؤسسة الاجتماعية للقضاة” امتدادا عملياً لروح الدستور في باب السلطة القضائية، وتجسيدا لمبدأ التكافل المؤسساتي الذي يربط القاضي بوطنه ومؤسسته قبل أي انتماء آخر.
وإذا كانت المكانة الاعتبارية للقاضي تتجلى في رمزية لباسه وموقعه في هرم الدولة، فإن جوهر هذه المكانة يتجسد في قدرته على العيش الكريم. فالقاضي الذي يواجه أعباء الحياة اليومية وارتفاع الأسعار دون حماية اقتصادية كافية، يجد نفسه في وضع هش قد يمس لا شعوريا بصفائه المهني. ومن هنا تبرز أهمية الزيادة الدورية في الأجور كآلية قانونية لتحصين القاضي من تقلبات المعيشة، وكترجمة فعلية لمبدأ الأمن المالي الذي تطرحه المواثيق الدولية لاستقلال القضاء.
فالرفع المنتظم من الأجور ليس امتيازا ولا منحة، بل هو إجراء حمائي يحافظ على التوازن بين تكاليف المعيشة ومردودية العمل القضائي، وهو في الوقت ذاته جزء من السياسة العامة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في السعي لتجويد بيئة العدالة. إن ربط الأجر بتطور الأسعار يُعدّ تجسيدا لمبدأ العدالة الاجتماعية داخل الجسم القضائي، ومظهرا من مظاهر الوفاء للرسالة السامية التي يحملها القضاة في خدمة المتقاضين.
ولا يخفى أن عبء الديمومة وما تقتضيه من يقظة دائمة، قد أضحى أحد أكثر مظاهر الإرهاق المهني للقضاة، ولا سيما قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة الذين يبقون على تواصل دائم مع الضابطة القضائية أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، يتلقون المكالمات، ويعطون التعليمات، ويتابعون الوقائع في حينها، في توازن دقيق بين مقتضيات القانون وضرورات الحياة الخاصة.
إن هذا الجهد المضني يستحق تعويضا نوعيا يعكس طبيعة الاستنفار المهني الذي يعيشه القاضي خلال الديمومة، ويوازي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. فالحديث عن تحصين القاضي لا يكتمل دون تثمين عادل لمجهوده خارج ساعات العمل العادية، خصوصا وأن طبيعة العمل القضائي لا تعرف حدود الزمن الإداري.
كما أن إقرار تعويضات عن الشهرين الثالث عشر والرابع عشر، على غرار ما هو معمول به في إدارات ومؤسسات عمومية عديدة، يشكل خطوة رمزية وعملية تعيد التوازن المادي والمعنوي للقضاة، وتعترف ضمنيا بما يبذلونه من تضحيات في سبيل صون العدالة واستقرار المجتمع. فالمبدأ واحد: لا تمييز في الحقوق المالية بين من يتحمل عبء العدالة ومن يباشر الأعمال الإدارية داخل الدولة.
ويضاف إلى ذلك مطلب التعويض عن الحساب الخاص، وهو امتياز يستفيد منه أطر الإدارة القضائية رغم أن مساهمة القاضي في ذات الحساب من خلال الإشراف والتوجيه لا تقل أهمية عن مساهمة الإدارة التقنية. ومن ثم فإن المساواة في الاستفادة من هذا التعويض تندرج في باب الإنصاف لا في باب المطالبة، إذ لا يمكن فصل الوظيفة القضائية عن الإطار المؤسسي الذي تُنتج داخله الأحكام والمقررات.
كما أن التنفيذ الزجري، بما يتضمنه من غرامات مالية وكفالات ومسطرة الصلح، يستلزم جهدا قضائيا دقيقا ومستمرا، ويولد مسؤولية مالية ومعنوية جسيمة تستحق مقابلا خاصا. فالقاضي هو من يحكم بالغرامة والصائر القضائي وهو من يحدد الكفالات والرسوم القضائية وهو الذي يتتبع تنفيذ الغرامات أو يبرم صلحا جنحيا ينجز عملا يختزل روح القانون في أبهى صورها، وهو جهد ينبغي أن ينعكس في نظام التعويضات، انسجاما مع فلسفة التحفيز والإنتاج القضائي.
إن تحقيق هذه المطالب ليس ترفا مهنيا جمعويا بل هو تكريس لعدالة داخلية تسبق العدالة الخارجية. فكما أن القاضي يُطالب بتحقيق الإنصاف في المجتمع، فإنه جدير بأن يُنصف داخل مؤسسته، من خلال نظام مالي واجتماعي يحميه من الهشاشة، ويمنحه السكينة التي تؤهله للحكم بعدل وموضوعية.
ويُنتظر من المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بما له من مكانة دستورية وهيبة مؤسساتية، أن يستمر في نهجه التشاركي مع رئاسة النيابة العامة ووزارة العدل من أجل بلورة رؤية موحدة حول النظام التعويضي والاجتماعي للقضاة، رؤية تزاوج بين مقتضيات الحكامة المالية ومتطلبات الكرامة المهنية.
فالدعم الاجتماعي والمالي ليس مطلبا آنيا، بل هو مشروع هيكلي يرسم معالم سلطة قضائية متوازنة، متماسكة، ومطمئنة. والعدالة التي تُصان بميزان القانون لا يمكن أن تزدهر إلا إذا كان القائمون عليها في مأمن من الحاجة والضيق، محصنين ضد كل ما قد يربك استقلالهم أو يضعف أثر كلمتهم.
إن المؤسسة الاجتماعية للقضاة، والزيادة الدورية في الأجور، وتعويضات الديمومة والتنفيذ الزجري، كلها ليست مطالب متفرقة، بل حلقات ضمن سلسلة واحدة غايتها تحصين العدالة في جوهرها الإنساني. فاستقلال القاضي ليس شعارا دستوريا فقط، بل هو ثمرة بيئة آمنة، عادلة، وكريمة.
وإذا كانت العدالة هي ميزان الدولة، فإن هذا الميزان لا يستقيم إلا إذا كان القاضي نفسه في وضع متوازن ماديا ونفسيا. ومن ثم، فإن أي إصلاح يروم ترسيخ استقلال السلطة القضائية لا يمكن أن يتجاهل الجوانب الاجتماعية والمادية لأهل القضاء، لأن الكرامة المهنية تظل المدخل الأول لاستقلال الضمير القضائي.
وهكذا يتضح أن دعم القاضي اجتماعيا واقتصاديا، وتحصين وضعه المادي والمعنوي، هو في جوهره دفاع عن المجتمع وعن سيادة القانون، لأن القاضي المستقل هو ضمانة المواطن الأولى ضد التعسف والانحراف. ومن هنا فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بما له من حكمة وتبصر، مؤهل لأن يجعل من هذه المقاربة الاجتماعية والمالية امتدادا طبيعيا لمسار الإصلاح القضائي الذي انخرطت فيه المملكة بثبات ورؤية بعيدة المدى.
الأستاذ عدنان المتفوق، الكاتب العام لنادي قضاة المغرب