Saturday 5 July 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: شفشاون .. من قال ان الشعر يؤجل ؟

عبد الرفيع حمضي: شفشاون .. من قال ان الشعر يؤجل ؟ عبد الرفيع حمضي
جاء إعلان جمعية أصدقاء المعتمد بشفشاون عن  تأجيل الدورة السادسة والثلاثين من “المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث” محبطًا للعديد من المتتبعين والفاعلين وعموم المثقفين وطنيا .
ليس لأن الدورة تأجلت، فهذا وارد في زمن الأزمات،  اما والسبب المعلن هو غياب  الدعم لبساطته  فالأمر يطرح أكثر من سؤال حول مكانة الثقافة في أولويات السياسات العمومية.
فهل من الطبيعي أن يتوقف مهرجان شعري، يعدّ من أقدم وأعرق المهرجانات الوطنية في المغرب، دون أن يتحرك أحد؟
وهل يمكن لمدينة كُرّمت من طرف اليونسكو سنة 2017 كمدينة إبداعية في مجال الفنون التقليدية، أن تفقد أبرز موعد شعري سنوي فيها، وكأنه حدث عابر؟
هل نحن بحاجة إلى من يذكّرنا من هو المعتمد بن عباد؟
ذلك الشاعر الذي حكم وأحب وقاوم، ثم خُلِدَ لشعره  لا لسلطانه ،فحملت جمعية أصدقاء المعتمد  المنظمة للمهرجان اسمه منذ أكثر من ستين عاماً، وفاءً لرجل جمع بين تاج الحكم وريشة القصيدة.
وها نحن اليوم، لا نجد من يحفظ لهذا الاسم مكانته، لا في ميزانيات الجماعات، ولا في أجندات القطاعات الاخرى.
المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث ليس تظاهرة موسمية عابرة، بل جزء من ذاكرة ثقافية جماعية. فعلى مدى خمسة وثلاثين دورة، احتضن تجارب شعراء مغاربة من مختلف الأجيال والمدارس، وفتح نوافذ للحوار والتفاعل بين النص والمدينة.
لان شفشاون ليست فقط مدينة الشعراء، بل وجهة متجذرة في السياحة الثقافية والروحية.يقصدها الزوار لا
لجمال طبيعتها فقط ،بل لسكينة أزقتها، وحضرة نسائها، وترانيمها الصوفية، وهوائها الأندلسي العتيق.
ففي كل ليلة خميس، تعلو الحضرة الشاونية، نساءً وصوتًا وإيقاعًا، في أحد أجمل مشاهد الروحانية النسائية بالمغرب.
إن شفشاون  التي أسست كحصن للمجاهدين وملاذ للأندلسيين الفارين من الاضطهاد بعد سقوط غرناطه جعل منها منذ بدايتها مدينة لها رسالة، جمعت بين الروح الأندلسية والعلم والمقاومة، فصارت بوابة للداخل المغربي، وذاكرة مفتوحة على المتوسط.حتى جاءت السيدة الحرة، الحاكمة الأندلسية المثقفة، التي ارتبط اسمها بالمقاومة والكرامة والقيادة.
التي وقفت في وجه الهيمنة الإسبانية، ورفضت الخضوع، واستقالت من الحكم بإرادتها، في سابقة سياسية وأخلاقية نادرة.
السيدة الحرة ليست فقط سيرة في كتب التاريخ، بل روح تسكن جدران المدينة، 
ولعلّ ما يجعل هذا التأجيل أكثر إيلامًا، هو أن جمعية أصدقاء المعتمد ليست جمعية عابرة، ولا وُلدت في ظل ريع الدعم أو دفء المؤسسات.فقد تأسست في مطلع الستينات، في زمن كانت فيه الكلمة تُحرس بالخوف، وتُوزن بميزان الحذر، في بلد كان يشق طريقه وسط العواصف والمنعرجات الكبرى التي وثّقها لاحقًا تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.
وكم من جمعية أغلقت أبوابها، وتبخر أملها، لكن جمعية أصدقاء المعتمد صمدت، واستمرت، لا لأنها تملك مالًا أو ظهرًا، بل لأنها آمنت برسالة واضحك: "أن الشعر يمكن أن يكون وطنًا بديلًا حين يضيق الوطن، وأن الثقافة ليست ترفًا بل فعلُ إيمان عنيد بالمعنى في زمن اللا معنى"
في خطابه بمناسبة عيد العرش عام 2014، أكد جلالة الملك محمد السادس أن:
“الرأسمال غير المادي لا يقل أهمية عن الرأسمال المادي في خلق الثروات، وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.”
فهل هناك تجسيد أوضح لهذا المفهوم من مهرجان شعري ظلّ يحرس هوية مدينة، ويُوقظ في الأجيال حسّ الانتماء والإبداع؟
في الوقت الذي تعجز فيه جهةٌ بأكملها عن إنقاذ دورة شعرية من التأجيل، تواصل مدن عديدة في العالم وضع الثقافة في قلب رؤاها التنموية.
مهرجان بابل في العراق، ميديلين في كولومبيا، ستروغا في مقدونيا… مهرجانات تُنظم في مدن متوسطة أو صغيرة، لكنها اختارت أن تجعل من الشعر جزءًا من هويتها وكرامتها الجماعية.
أما مدن مثل إدنبره، أفيينيون، بولونيا، فقد فهمت أن الثقافة ليست ديكورًا بل أداة بناء حقيقية.
“الحضارات فانية، وما ينقذها هو الثقافة.” بول فاليري 
فأين موقع شفشاون اليوم من هذا التصور؟
أليست هي المدينة التي لا تملك من الثروات سوى جمالها، تراثها، وشعرها؟
فإذا لم تحمِ هذه المدينة رأسمالها غير المادي، فمن سيفعل؟ وإذا لم يتحول مهرجانها الشعري إلى شأن عام، تدافع عنه السياسات العمومية، وتؤمن استدامته، فمتى سنفهم أن الثقافة ليست زينةً على الهامش، بل هي أصل الحكاية؟
الأسئلة كثيرة، والمرارة أكبر.
أما القصائد، فستبقى تُلقى في الظل، حيث لا دعم ولا منصة ولا اضواء لكنها لن تصمت.