Monday 3 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الصمد بن شريف: سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر.. الحكمة والواقعية أولا

عبد الصمد بن شريف: سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر.. الحكمة والواقعية أولا عبد الصمد بن شريف

شكلت سياسة اليد الممدودة من طرف جلالة الملك محمد السادس تجاه الجزائر ،ثابتا بنيويا في العديد من الخطب التي وجهها جلالته  في سياقات ومناسبات مختلفة، وعنصرا مركزيا  في العقيدة الدبلوماسية للمغرب . وكان لافتا أن الخطاب الاستثنائي الذي وجهه جلالة الملك، مباشرة بعد تبني مجلس الأمن الدولي لمقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، كأساس وحيد  للتفاوض و حل نزاع الصحراء المفتعل. توجيهه لرسالة واضحة وصريحة إلى الرئيس الجزائري قائلا " أدعو أخي فخامة الرئيس عبد المجيد تبون، لحوار أخوي صادق، بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة، تقوم على الثقة، وروابط الأخوة وحسن الجوار.  وتكريسا لمنزع الحكمة والواقعية والرزانة حرص جلالة الملك على التأكيد أن المغرب لا يعتبر هذه التحولات انتصارا، ولا يستغلها لتأجيج الصراع والخلافات.

 وبمناسبة عيد العرش لهذه السنة. لاحظ المراقبون والمهتمون بالشؤون المغاربية أن الخطاب الذي وجهه جلالة الملك إلى الشعب المغربي توقف بشكل واضح ودال عند الوضع الشاذّ وغير الطبيعي للعلاقات بين البلدين. علما أنه جرت العادة في المغرب أن يتعلق خطاب العرش باستعراض الإنجازات الكبرى والأساسية، التي تحققت في مختلف الميادين على امتداد سنة. غير أن الخطاب  حمل في طيّاته رسائل قوية وصريحة وصادقة حيث قال جلالة الملك “وبصفتي ملك المغرب، فإن موقفي واضح وثابت، وهو أن الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة، وتربطهما أواصر اللغة والدين، والجغرافيا والمصير المشترك.لذلك، حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول؛ حوار أخوي وصادق، حول مختلف القضايا العالقة بين البلدين.وإن التزامنا الراسخ باليد الممدودة لأشقائنا في الجزائر، نابع من إيماننا بوحدة شعوبنا، وقدرتنا سويا، على تجاوز هذا الوضع المؤسف”.

 

 ليس هناك ادنى شك في كون الخطب الملكية وعلى امتداد سنوات تضمنت عدة رسائل صريحة إلى السلطات الجزائرية، تعبيرا عن حسن النية وصدق الإرادة وصفاء الطوية، وتأكيدا على رغبة المغرب، رسميا وشعبيا، في إنهاء حالة الجمود والجفاء التي عمّرت طويلا، وأصابت العلاقات بين البلدين في مقتل، وفتحت أبواب الحروب الإعلامية والنفسية على مصراعيها، لنشر الأخبار الكاذبة والدعايات المغرضة والتأويلات الخاطئة والمعلومات المضلّلة.

 

ويفهم أيضا من كلام جلالة الملك محمد السادس الموجه بشكل واضح إلى أهل الحل والعقد في الجزائر، أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين.

وتكريسا لهذه الرؤية الاستراتيجية واعتبار أن نهوض الصرح المغاربي من سباته، وخروجه من وضعية الشلل، لن يتم إلا بانخراط المغرب والجزائر، حيث قال جلالة الملك في هذا السياق: “نؤكد تمسكنا بالاتحاد المغاربي، واثقين بأنه لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر، مع باقي الدول الشقيقة”. وهذه القناعة الراسخة والمتجذرة أكد عليها جلالة الملك مرة أخرى في خطابه يوم الجمعة 31 أكتوبر 2025   حيثث جدد التزامه الشخصي بمواصلة العمل، من أجل إحياء الاتحاد المغاربي، على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون والتكامل، بين دوله الخمس.

 

ولم تقتصر هذه الخطوات الجريئة و المبادرات التاريخية على عزم المغرب الأكيد على تصفية الأجواء وتنقيتها فقط، إذ سبق أن تقدم جلالة الملك في مناسبات سابقة باقتراح عملي إلى المسؤولين الجزائريين، تمثل في إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها، مهمتها الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدقٍ وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ومن دون شروط أو استثناءات.

وما تضمنه خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش سنة 2021 دليل قوي وبرهان ساطع وكلام قاطع على ما يحدو المغرب من مشاعر لا نفاق فيها ولا لف ولا تناور ولا دوران، حيث تحدث جلالة الملك بلغة صريحة لا غموض فيها قائلا: “من غير المنطقي بقاء الحدود مع الجزائر مغلقة. وأن ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب والعكس صحيح”. وقال بعبارات مؤثرة “المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان. وإن الوضع الحالي لهذه العلاقات لا يرضينا، وليس في مصلحة شعبينا، وغير مقبول من طرف العديد من الدول. فقناعتي أن الحدود المفتوحة هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين”.

 

واعتبر حلالته أن “إغلاق الحدود يتنافى مع حق طبيعي، ومبدأ قانوني أصیل، تكرّسه المواثيق الدولية، بما في ذلك معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي"، موضحا أنه "لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا، مسؤولون عن قرار الإغلاق، ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا على استمراره، أمام الله وأمام التاريخ، وأمام مواطنينا".

وتشديدا على النية الحسنة، أكد جلالة الملك أن الشر والمشاكل لن تأتي “الأشقاء في الجزائر” أبدا من المغرب، كما لن يأتيهم منه أي خطر أو تهديد؛ لأن ما يمسّ الجزائر يمسّ المغرب، وما يصيب الجزائر يصيب المغرب”.

وبعيدا عن أي مزايدة، ومن منطلق واقعي وعقلاني: هل يمكن لنظام سياسي براغماتي ومتعقل، ومنظومة عسكرية رصينة ومتزنة، وذات نظرة بعيدة ورؤية سديدة، وترسانة إعلامية مهنية وذات مصداقية، وهيئات حزبية مستقلة وفاعلة، أن تبخّس كل هذه الرسائل الإيجابية التي حملتها مجموعة من خطب جلالة الملك وأن تقرأها قراءة مغرضة وماكرة وتخضعها لتأويلات غير موفقة وتفسيرات ملفقة ؟

يتبين من خلال استقراء مختلف ردود الأفعال والمواقف السائدة في الساحة السياسية والإعلامية الجزائرية أن المنظومة السياسية والعسكرية -أي السيستيم  -في الجارة الشرقية لاترغب في تغيير عقيدتها ونظاراتها . فكل ما يصدر من إشارات من طرف جلالة الملك تشكك فيه، وتستقبله بكثير من التوجس وعدم الثقة والرفض غير المبرر والتهرب غير المقنع .

والمؤسف والمؤلم، أن وسائل الإعلام في الجزائر انخرطت منذ سنوات في الصف المعادي للمغرب، وأعلنت حالة استنفار جماعية، لتقصف بشكل جنوني، وبكل ما أوتيت، من حقد وعداء، النيات الحسنة وسياسة اليد الممدودة والحكمة المناصرة للحوار وحسن الجوار.

والأدهى أن هذه المنظومة الإعلامية المتماهية مع المنظومة العسكرية، أخرجت من قاموسها المتشنج في مختلف المناسبات، كل النعوت التي تنمّ عن تجذّر مشاعر العداء والكراهية. حيث لم تتردّد غالبية المنابر مكتوبة وسمعية –بصرية ،والتي تعكس مواقف النظام السياسي والمؤسسة العسكرية، في رمي الدعوة إلى الحوار ورأب الصدع بين بلدين جارين، بشتى النعوت السلبية والقدحية. علاوة على تقزهيما وتبخيسها والتقليل من أهميتها ،من خلال تفسيرها من منطلق أن المغرب  يوجد في موقف ضعف. وهذا هو الخطأ القاتل الذي يقع في فخه السيستيم  وأدرعه السياسية والعسكرية  والدبلوماسية والإعلامية .لأن الذي يدعو إلى الحوار  هو الطرف  الحكيم والمتعقل والواثق من نفسه، والمتيقن من عدالة مطالبه ومصداقية خطابه وصواب نظرته وسداد مقاربته.  

ولم يشعر جزء كبير من الإعلام الجزائري ،والذباب الالكتروني المجند للنيل من سمعة المغرب.  بأي حرج في الاستخفاف برموزه، والتهكّم على مؤسّساته وثوابته. وربما وجدت هذه الترسانة المؤدلجة والمبلطجة والمدجنة  في التلذّذ باستعمال مصطلح المخزن، منتهى السعادة وإشباعا لجوعٍ رمزي مركّب، يتداخل فيه التاريخي بالنفسي بالجغرافي بالجيو – استراتيجي. وكأنها، باستهلاكها المبالغ فيه لهذا المصطلح، تريد الإفصاح عن أنها حقّقت اكتشافا غير مسبوق يشبه المعجزة.

والحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن القيادة السياسية الحكيمة والرشيدة ، هي التي تمتلك الخيال السياسي الفعّال، والقدرة على الاستباق والتوقع. وتؤمن بأن حل الأزمات مهما استعصت، يمر عبر الحوار والتفاوض بدون عقد.

كما أن القيادة السياسية الرصينة، هي التي تتوفّر على إمكانات غير محدودة لفهم حاجيات المجتمع وقراءتها واتخاذ القرارات بصورةٍ سليمة. والسعي إلى حل الأزمات بدل تصديرها. أما تركيز الأنظار على عدو وهمي، فهو من صميم صناعة المؤسسة العسكرية واختراعها، وهي التي تسوّق خطابا مفاده بأنها الجهة التي تملك شرعية الائتمان على البلد، وأنها وحدها تعرف من يريد إلحاق الأذى به، وهي التي من حقها أن تقرّر مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي، و تبعا لذلك على كل مكونات المجتمع، أن تؤمن إيمانا راسخا وظاهرا وواضحا بهذه الأطروحة.

 ومن يوجد في هرم السلطة ،لا يجب أن يكون معادلا للمزايدة و”البوليميك” السياسوي والشعبوي. والعواطف الثورية الجارفة والجامحة التي تجاوزها الزمن. لأن مثل هذه العواطف، لا تنتج استراتيجيات، ولا تبني مؤسسات، ولا تصوغ قوانين، ولا تنزل دساتير، ولا تبني علاقات سليمة مع الدول، خصوصا التي تقع في الجوار الجغرافي.

عبد الصمد بن شريف، إعلامي وكاتب