العادةُ أنه حول كل قرار، وطني أو إقليمي أو جهوي أو قاري أو أُمَمي، تنشأ أشياءٌ صغيرةٌ قد لا يَلتفت لها المتتبعون أثناء تعلّقهم بنص القرار ذاتِه وتبعياتِه!..
هكذا، تتشكل في محيط القرار المعني مشاهد خلفية، لها هي الأخرى خلفياتُها وأشياؤها الأصغر حجماً وشأناً، مثل هذه التي سنتعرض لبعضها في هذا المقال على سبيل الاستئناس والاعتبار.
الذي عرفناه جميعاً، بالسمع والبصر والمشاهدة، يوم الجمعة 31 أكتوبر 2025، أنّ مجلس الأمن الدولي عقد جلسته المنتظَرة، المتعلقة حصرياً بملف النزاع الجزائري المغربي المفتعَل حول صحرائنا الغربية الجنوبية، ليتم التصويت بعد المناقشات المُسهَبة والمُتعِبة على التكريس الدولي الرسمي لمشروع القرار الأمريكي، الذي أقرّ بأن "المقترح المغربي للحكم الذاتي" هو الإطار الوحيد، الجدّي، وذو المصداقية، والقابل للتطبيق، لإنهاء ذلك النزاع، بعد أن طال أمده أكثر من نصف قرن، كأقدم نزاع من بين النزاعات المعروضة راهناً على كل من المنظمة الأممية ومجلس الأمن الدولي.
القرار تمت إجازته، داخل مجلس يبلغ عدد أعضائه خمسة عشر عضواً، بأغلبية ساحقة: أحد عشر صوتاً لصالح القرار، وثلاثة ممتنعين عن التصويت لأسباب مختلفة، كما سيأتي بيانه، وعضو واحد غائب عن التصويت، ليس لسبب آخر غيرَ "الهروب"، و"الجُبْن"، وغيرَ "دَفْنِ الرأس في تُراب المَهانة"، كما يفعل طائر النعام، وكما يفعل صاحب ذلك الصوت في كل مرة، تَجنُّباً للوقوف موقفَ النّد والخصم أمام صاحبة القلم، الولايات المتحدة الأمريكية، واجتناباً لِما قد ينجم عن ذلك لو حَدَثَ من عواقب، كما أكّدتُ على ذلك في مقال سابق!!
مَشهدٌ آخر، ربما لم ينتبه إليه كثيرون وسط جعجعة المَواقف والمُناقشات، وهو ذلك "الحضور الأمريكي الطاغي" في لحظات التصويت، حيث بدَا وفدُ البيت الأبيض ووزارةِ الخارجية الأمريكية أكثر الوفود عدداً وعُدّة، حتى أنّ سفير الولايات المتحدة الجديد، المعيَّن مؤخَّراً بالرباط، كان من بين الحضور، وقد زيّن صدرَه بميداليتين إحداهما أمريكية والثانية مغربية، ليٌرسِل الوفد الأمريكي بذلك، رسالةً واضحةً إلى كل من يهمه الأمر... رسالةٌ قوية تقول بلسان الحال:
"إن هذا الملف، والقرار المقترح من لَدُنِنا بشأنه، يَهُمّاننا بالغ الأهمية، ويَهمّنا أكثر من ذلك، أن يتم إقرار صيغتِنا المقترَحة بالذات وبالحرف، للخروج نهائياً من هذا الملف المُزعِج، والذي يُلامس عن قُربٍ مصالحَنا في إفريقيا، وفي المنطقة المغاربية، ولكونه يتعلق تحديداً بصديق تاريخي وشريك إستراتيجي هو المغرب"!!
"إن هذا الملف، والقرار المقترح من لَدُنِنا بشأنه، يَهُمّاننا بالغ الأهمية، ويَهمّنا أكثر من ذلك، أن يتم إقرار صيغتِنا المقترَحة بالذات وبالحرف، للخروج نهائياً من هذا الملف المُزعِج، والذي يُلامس عن قُربٍ مصالحَنا في إفريقيا، وفي المنطقة المغاربية، ولكونه يتعلق تحديداً بصديق تاريخي وشريك إستراتيجي هو المغرب"!!
ثم هناك مشهد آخر لا يقل أهميةً وجَلْباً للأنظار، وهو امتناع كل من روسيا والصين عن التصويت، وقد كان النظام الجزائري، طيلة تمطيطه لعُمر هذا النزاع، يُعوّل على رفضهما معاً أو رفض إحداهما على الأقل للمقترح الأمريكي، باستعمال حق الفيتو، أو الدفع في أضعف الأحوال باتجاه تعديل ذلك المقترح بما يضمن للجزائر متسعاً جديداً من الوقت، لتمارسَ فيه بهلوانياتها المعتادة!!
لكن، لقد اتضح للعالم برمته، أن هاتين الدولتين العُظمَيَيْن نَفَدَ صبرُهما، هما الأُُخريان، إزاءَ السلوك المراهق للحكام العساكر العجزة، الذين لم يكن يهمهم في كل هذا النزاع سوى وضع الحصى في الحذاء المغربي، حتى لا يزداد المغرب تَقدٌّماً إلى الأمام، وتَطوُّراً في الحال، وتَسامِياً نحو الأعالي، داخل فضائه المغاربي والإفريقي والمتوسطي، وحتى العالمي!!
ولا حاجة بنا هنا للوقوف عند الصدمة القاصمة التي استشعرها نظام الجزائر وهو يجد نفسه وحيدا، غريباً، داخل مجلسٍ ظل طوال السنة الدولية الحالية يتغنَّى بالانتماء إليه، رغم أنه انتماء شكلي لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر!!
المشهد الآخر، الذي صاحب القرار الأممي ليوم 31 أكتوبر، يتمثّل في انضمام "الباكستان" إلى الدولتين المذكورتين، الممتنعتَيْن عن التصويت، رغم العلاقاتِ الجيّدةِ التي تجمع المغرب بتلك الدولة الوازنة، وهذا أحد أبيات قصيد هذه المقالة، لأن الباكستان شكّلت نقطة استفهام لدى الكثيرين منا، ليس لكونها امتنعت عن التصويت فحسب، وقد كان تصويتُها بالرفض محسوماً في استحالته بالبداهة، لكونها تحتفظ منذ نشأة هذا النزاع بموقف الحياد الإيجابي، الذي جعلها على الدوام تأخذ مساحة من مختلف أطراف النزاع والمتدخلين فيه... و إنما، لأن السبب المنطقيّ في الامتناع عن التصويت، والذي ينبغي علينا نحن المغاربة تفهُّمُه والتجاوُزُ عنه، أن الباكستان تعتمد توجُّهاً سياسياً براغماتياً، بكل معنى الكلمة، وأنها "تَحسِبُها طايرة !!"، لأنها تعاني في صمت من المسألة "الكشميرية"، التي كانت سبباً في مواجهات دامية عمّرت في الماضي طويلاً بينها وبين جارتها، الجمهورية الهندية، لتنتهي تلك المواجهاتُ قسرياً إلى تمتيع إقليم كشمير بشقيه الهندي والباكستاني بتقريرٍ للمصيرِ أسفر عن "حكم ذاتي" أصاب دولة الباكستان، وما زال، بكثير من المغص والوجع، ولذلك امتنعت عن التصويت لفائدة اقتراح "الحكم الذاتي" المغربي، وفي الوقت نفسه امتنعت عن رفض القرار لعلاقاتها الوطيدة مع المملكة المغربية!!
عدا هذه "الهامشيات" مرّ القرار بسلالة عجيبة تَنِمُّ عن عملٍ جبّارٍ قامت به الإدارة الأمريكية، وهي لذلك تُشكر عليه الشكرَ الجزيلَ والغامِر، وهو شكرٌ لن ينساه المغرب أبد الدهر، كما لم تنسَ تلك الإدارة كونَ المغرب بَصَمَ على صداقته التاريخية معها بحرصه على أن يكون أُولى الإمبراطوريات والدول السيادية التي اعترفت لأمريكا باستقلالها من هيمنة المملكة التي لم تكن الشمس تغرب عن أصقاعها، وهي بريطانيا العظمى!!
بيتُ القصيد في هذا المقال، أيضاَ، أن هذا الموقف الأمريكي يُنبِئُ عن إرادة أمريكية، جد واضحة، في الذهاب بعيداً بهذا القرار الأممي إلى أن يتحقق بحذافيره على أرض الواقع، لأنها من جهة، لن ترضى بالتعامل معه بالاستخفاف أو بالامتناع عن التنفيذ، ومِن جهة أخرى، لأنها تعلم علم اليقين وتدرك تمام الإدراك بأن خصوم وحدتنا الترابية، واخص بالذكر النظام الجزائري تحديداً، ومَن يدور في فلكه من الأنظمة الكرتونية مثل النظام الجنوب إفريقي، وأنظمة بعض جمهوريات الموز، سيفعل المستحيل لتعطيل أو إعاقة التنفيذ الفعلي للقرار الأممي، وسيُمارس من أجل ذلك بهلوانيات أخرى قد لا تدور بالبال!!
ذاك موضوع آخر، ربما لم يحن بَعد أوان الخوض فيه... "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (صدق الله العظيم)!!!
محمد عزيز الوكيلي /إطار تربوي متقاعد