Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: الإمام الذي يقرأ الواقع الفرنسي بين الشرعية الحقيقية والتمثيل الوظيفي

عبد الحي السملالي:  الإمام الذي يقرأ الواقع الفرنسي بين الشرعية الحقيقية والتمثيل الوظيفي عبد الحي السملالي
في السياق الفرنسي، حيث يعيش المسلمون بين تحديات الهوية وضغوط الاندماج وتوترات الخطاب العام، لم تعد الإمامة مجرّد وظيفة دينية تُمارَس في محراب المسجد، بل غدت مسؤولية فكرية واجتماعية عميقة. لم يعد كافيًا أن يعرف الإمام أحكام الطهارة والصلاة، بل صار لزامًا عليه أن يُجيد قراءة الواقع، ويفهم السياق، ويُقدّم خطابًا يلامس قضايا الناس ويُعالج أمراضهم.
 
قراءة الواقع: الشرط الأول للإمامة
الإمام الذي لا يُحسن قراءة الواقع لا يصلح أن يكون قائدًا روحيًا. فكيف لمن لا يرى أزمات مجتمعه أن يُرشد الناس؟ وكيف لمن يجهل أمراضهم النفسية والاجتماعية أن يُداويها؟ إن قراءة الواقع ليست ترفًا فكريًا، بل شرطٌ جوهري لبناء خطابٍ دينيٍّ نافعٍ وفاعل.
قراءة الواقع تعني فهم السياق الفرنسي: تحديات الهوية، التهميش، الإسلاموفوبيا، التفكك الأسري، وفقدان المعنى.
وتعني إدراك التحولات في وعي الشباب، في علاقتهم بالدين، في نظرتهم للمؤسسات، وفي حاجتهم إلى خطابٍ صادقٍ عميق.
كما تعني أن يعيش الإمام في حالة قلقٍ فكريٍّ دائم، لا يكتفي بما حفظ، بل يسعى لما ينفع، يبحث ويتأمل، يربط النص بالواقع، ويعيد إنتاج المعنى.
 
الإمام الذي يحمل القلق الفكري: ضد الراحة العقيمة
الإمام الذي نحتاجه اليوم ليس من يعيش في راحة ذهنية، ولا من يستسلم لما يُسمّى بالفرنسية situation de confort؛ حيث يكتفي بما لديه ويتهرب من كل تعب أو مساءلة. هذه الراحة لا تُنتج فكرًا، ولا تُحرّك وعيًا، ولا تُصلح مجتمعًا.
الإمام الحقيقي هو من يحمل قلقًا فكريًا دائمًا، يُطارده السؤال ويُقلقه الواقع، فيبحث ويتأمل ويجتهد. هو من يُلاحق مشاكل الناس لا من يهرب منها، ويجدد خطابه كل أسبوع بدل أن يُعيد تكرار نفسه. ذلك القلق ليس ضعفًا، بل هو مصدر القوة، إذ به يظل الإمام حيًا ومتفاعلًا ومؤثرًا؛ يخرج من المنبر إلى الشارع، ومن النص إلى الإنسان، ومن التلقين إلى التغيير.
 
هل يصلح أن يؤم الناس من يعلم أن بينهم من هو أقدر منه؟
الإمامة ليست امتيازًا شخصيًا، بل أمانة ومسؤولية. ومن يصعد المنبر وهو يعلم أن في الصف من هو أعلم وأقدر على قراءة الواقع وتحويله إلى خطابٍ حيٍّ مؤثر، ثم لا يُفسح له ولا يُشاركه ولا يُحاوره، فقد خان الأمانة وفضّل التصدّر على الصدق، والمكانة على المصلحة العامة.
في زمن الأزمات، نحتاج إلى من يُجيد فهم الناس لا إلى من يُجيد الوقوف أمامهم. ومن يعلم أن غيره أقدر منه ثم يُصرّ على الإمامة، فقد آثر نفسه على مجتمعه وضيّع فرصة الإصلاح.
الإمام الحقيقي هو من يتراجع حين يرى الأكفأ، ويُفسح المجال للأصلح، ويُشارك ولا يُقصي، ويُرشد لا يحتكر. فالإمامة تكليف لا تشريف، ومن لا يُجيد قراءة الواقع ولا يعترف بالكفاءة، لا يصلح أن يكون إمامًا.
 
الزعامة المغشوشة: حين تُستبدل الأمانة بالغرور
أخطر ما يُصيب الإمامة أن تتحول من موقع خدمة إلى موقع سلطة، ومن منبر هداية إلى منصة تمويه. بعضهم يتمسّك بالإمامة لا حبًا في المسؤولية، بل افتتانًا بالمكانة واستلذاذًا بالزعامة. يُدافع عن موقعه دفاعًا مستميتًا، ولو لجأ إلى أساليب تُسيء إلى الدين وتُشوّه صورة الإمامة نفسها.
هؤلاء لا يخدمون الرسالة بل يخدمون الذات، لا يُضحّون في سبيل الناس بل يضحّون بالناس في سبيل البقاء. يُقصون الأكفأ، ويُهمّشون الأصدق، ويُحاصرون المنبر وكأنه ملك خاص لا أمانة عامة.
 
من الكفاءة إلى الادعاء: أزمة الشرعية في المشهد الديني الفرنسي
لم يعد الزيف يُقاس بما يُقال، بل بمن يقوله. في زمن اقتصاد الانتباه، صار الإعلام هو الموزّع الأكبر للشرعية. يكفي أن تمتلك حضورًا رقميًا مؤثرًا أو لسانًا طليقًا لتُقدَّم للجمهور كـ“خبير” أو “مفكر”، ولو كنت تفتقر إلى أدنى مقومات التكوين العلمي.
 
في فرنسا، برزت شخصيات تُقدّم نفسها كـ“شيوخ” أو “خبراء في الإسلام الأوروبي”، دون علمٍ رصين، مستغلين فراغًا نتج عن:
ضعف المؤسسات الدينية المستقلة.
غياب التكوين المحلي العميق.
انسحاب الكفاءات الصادقة بفعل التهميش.
رغبة بعض الجهات الرسمية في صناعة نماذج “معتدلة” تخدم سياسات الإدماج.
 
وهكذا تحوّل الانتحال الفردي إلى منظومة رمزية تُكرّس التمثيل الهشّ للمسلمين، وتُقدّم خطابًا خاليًا من العمق والصدق.
الدجال المثقف: حين يُغلف الجهل بمفاهيم لا تُفهم.
 
في هذا السياق، ظهر على المنابر نوعٌ جديد من المتصدرين لا يمتلك تكوينًا شرعيًا ولا عمقًا علميًا، لكنه يُتقن فن الإبهار. يتحدث عن “الثورة العلمية” و“توماس كون” و“ميكانيكا الكم”، ويُسقط مفاهيم الفيزياء النظرية على الدين دون أن يفهمها هو، ولا أن يفهمها من يسمعه.
هؤلاء لا يُخاطبون العقول، بل يُخدرونها، لا يُنيرون الوعي بل يُغرقونه في ضباب المفاهيم المعلّبة.
وليسوا قلة؛ فمنهم من لم يتجاوز السنة الأولى في كلية الصيدلة، فتركها والتجأ إلى الشأن الديني ليقتات منه.
ومنهم من يحمل شهادة دكتوراه في الفيزياء، لكنه أخطأ الهدف في مشواره المهني، فلم يشتغل باختصاصه، وضل ينتظر الفتات الذي تجود به مؤسسة الإسلام في فرنسا، أو المساعدات الاجتماعية، أو الهبات الموسمية من بعض القنوات أو دول الخليج.
 
إنه الارتزاق الرمزي: حين يتحول الدين إلى وسيلة عيش، والمنبر إلى منصة تسوّل، والمفاهيم إلى أدوات تمويه. هؤلاء لا يملأون الفراغ بل يُعمقونه، ولا يُرشدون الناس بل يُضلّونهم بخطابٍ غامضٍ ومفاهيمَ جوفاء.
 
نحو إمامة واعية
ما نحتاجه اليوم هو إمامةٌ تجمع بين الوحي والسياق، بين التراث والإنسان، بين النص والواقع. إمامةٌ تُنصت للناس وتُفكر معهم لا عنهم، تُقاوم الزيف وتُعيد بناء الشرعية على أساس الاستحقاق لا الادعاء.
فالإمام الذي يُجيد قراءة الواقع هو وحده القادر على تجديد الخطاب، واستعادة الثقة، وملء الفراغ التربوي الذي يحتاجه المسلمون في حياتهم اليومية.
هو من لا يهدأ له بال حتى يفهم ما يعانيه مجتمعه ويبحث له عن مخرج، يُعيد صياغة الوعظ ليكون علاجًا لا تكرارًا، بناءً لا تبريرًا، يقظةً لا تخديرًا.
 
الإمام الواعي لا يكتفي بالطهارة والصلاة والزكاة، بل يتجاوزها إلى بناء الإنسان ومداواة القلوب وتفكيك الأزمات وربط الدين بالحياة.
هو من يحمل همّ الناس ويعيش قلقهم ويجتهد في خدمتهم لا في التسلط عليهم. يرى المنبر مسؤولية لا منصة، أمانة لا امتيازًا، تعبًا لا راحة.
وإذا كانت الإمامة اليوم تعاني من أزمة شرعية، فالحل لا يكون بإعادة توزيع الألقاب، بل بإعادة تعريف الإمام:
هو من يعيش القلق لا من يستسلم للراحة، من يُجيد القراءة لا من يُتقن التكرار، من يُنير الطريق لا من يُغلقه.
سؤال مؤجل…
 
يبقى سؤالٌ جوهري لا بد من طرحه:
هل يمكن إصلاح الإمامة دون معالجة دور الجمعيات الإسلامية في تشكيل هذا المشهد؟
سؤالٌ مؤجل، لكنه يستحق معالجة مستقلة وجذرية في مقال لاحق