Thursday 4 September 2025
مجتمع

المصحات الخاصة وتعميم الحماية الاجتماعية: معضلة صامتة!

 
 
المصحات الخاصة وتعميم الحماية الاجتماعية: معضلة صامتة! المصحات الخاصة بالمغرب كعقبة بنيوية تهدد مشروع تعميم الحماية الاجتماعية
لا يمكن الحديث عن تعميم الحماية الاجتماعية في المغرب دون التوقف عند إحدى المعضلات الصامتة التي تُقوض أسس هذا الورش الإصلاحي الكبير: ظاهرة النوار في المصحات الخاصة. النوار هنا ليس مجرد ممارسة جانبية بل آلية موازية لتسعير الخدمات الصحية، تُلقي بعبئها على المواطن المؤمن وتُفرغ بطاقة التأمين من محتواها. فالمريض الذي يلج باب المصحة على أمل الاستفادة من التغطية يجد نفسه مضطراً في كثير من الأحيان لدفع مبالغ إضافية غير مصرح بها، سواء عبر شيكات ضمان، أو عربونات غير مفوترة، أو زيادات تُفرض بشكل غير مكتوب. والنتيجة أن ما كان يُفترض أن يكون حماية اجتماعية يتحول في الواقع إلى نزيف مالي يهدد الاستقرار الأسري.
 
المعطيات الرسمية تكشف حجم الخلل. أكثر من 43 في المائة من الإنفاق الصحي في المغرب ما يزال يُدفع مباشرة من جيوب الأسر، وهي نسبة مرتفعة جدا قياسا بالمعايير الدولية في أنظمة التأمين الإجباري. في الوقت نفسه، أكثر من 90 في المائة من مصاريف صناديق التأمين تُصرف في القطاع الخاص، ما يجعل أي خلل في هذا السوق مؤثراً بشكل مباشر على التوازن المالي للنظام وعلى العدالة الاجتماعية. ومع أن المغرب قطع أشواطاً مهمة في تعميم التأمين الإجباري، حيث ارتفعت نسبة المصرح بهم إلى حوالي 86 في المائة، فإن الواقع اليومي للمريض يكشف أن الاستفادة الفعلية من حقوقه ما تزال تصطدم بجدار “السوق الرمادية” التي يصنعها النوار.
 
ولعل أخطر ما في هذه الممارسة أنها تنتشر بصمت، دون أن تترك أثراً في الأوراق الرسمية، وهو ما يصعّب رصدها وضبط حجمها الحقيقي. فالمريض في كثير من الحالات يفضل السكوت والقبول بالأمر الواقع خوفاً من حرمانه من الخدمة أو تأخيرها، مما يجعل النوار يتحول إلى ما يشبه “القاعدة غير المكتوبة” داخل بعض المصحات.
 
هذا الصمت المجتمعي الإجباري يساهم في تطبيع الممارسة ويجعلها جزءاً من الثقافة الصحية اليومية، وهو ما ينسف مبدأ الشفافية في العلاقة بين المؤمن والمؤسسة الصحية.
 
وإذا كانت بعض المصحات تبرر لجوءها إلى النوار بكون التعرفة الوطنية المرجعية لم تعد تعكس الكلفة الحقيقية للخدمات، فإن هذا التبرير لا يمكن أن يغطي على الطابع غير القانوني وغير الأخلاقي لهذه الممارسات. فالمسؤولية هنا لا تقع فقط على المصحات، بل كذلك على السلطات العمومية التي لم تحسم منذ 2006 في مسألة تحديث التعرفة بشكل شامل وواقعي، رغم دعوات متكررة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ومجلس المنافسة إلى ضرورة مراجعتها. النتيجة أن المصحات تجد نفسها بين مطرقة التعرفة القديمة وسندان الكُلف الجديدة، لكن المواطن هو من يدفع الثمن النهائي.
 
تأثير النوار لا يقف عند الجانب المالي فقط، بل يتعداه إلى ضرب ثقة المواطن في ورش الحماية الاجتماعية برمته. فالمواطن الذي يجد نفسه مضطراً إلى دفع مبالغ إضافية غير مفوترة يخرج بقناعة أن التأمين الصحي غير مجدٍ، وأن مساهماته الشهرية في الصندوق مجرد اقتطاعات بلا مقابل. ومع تكرار التجارب السلبية، تتراكم حالات الإحباط وتنهار الثقة في جدية الدولة في ضبط السوق الصحي، وهو ما يمكن أن يهدد مشروعية الإصلاحات الكبرى في نظر الرأي العام.
 
ومن جهة أخرى، فإن هذه الظاهرة تعمق الفوارق الاجتماعية. فالأسر الميسورة قادرة على تحمل النفقات الإضافية ولو على مضض، بينما تجد الأسر محدودة الدخل نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستدانة أو التخلي عن العلاج. هنا يصبح النوار عاملاً من عوامل الإقصاء الصحي، يعاكس تماماً فلسفة ورش الحماية الاجتماعية التي تهدف إلى تكريس الإنصاف وتقليص الفوارق. بعبارة أخرى، ما يربحه مزود الخدمة بشكل غير مشروع يخسره المجتمع كله على مستوى العدالة والتماسك الاجتماعي.
 
المفارقة أن جوهر هذه المعضلة مؤسسي أكثر مما هو فردي. فالتعرفة الوطنية المرجعية التي تحدد أسعار الخدمات الصحية لم يتم تحديثها بشكل شامل منذ سنة 2006، ما خلق فجوة كبيرة بين الأسعار الرسمية والكُلف الحقيقية التي يصرح بها الأطباء وأصحاب المصحات. ومع غياب توافق بين ممثلي الصناديق والمؤسسات الصحية حول سبل التحيين، ظل الجمود سيد الموقف، وتُرك الباب مفتوحاً أمام ممارسات غير شفافة لتغطية الفارق. هكذا، يتحول النوار من مجرد انحراف فردي إلى نتيجة حتمية لخلل مؤسساتي مزمن.
 
الأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة تُضعف ثقة المواطن في التأمين الصحي وفي ورش الحماية الاجتماعية برمته. كيف يمكن إقناع الأسر بجدوى الانخراط إذا كانت تجد نفسها مجبرة على الدفع مرتين: مرة عبر مساهماتها في الصناديق، ومرة ثانية عبر مبالغ غير مفوترة؟ وكيف يمكن بناء تعاقد اجتماعي متين إذا كان المواطن يشك في أن المؤسسات عاجزة عن حمايته من استغلال السوق؟
 
مكافحة النوار تتطلب إرادة سياسية وتنظيمية حقيقية. المطلوب تحيين عاجل للتعرفة المرجعية وربطها بكلفة الخدمات بشكل دوري، وتعميم الفوترة الإلكترونية الإلزامية، وتمكين المواطن من عرض ثمن كتابي قبل أي تدخل طبي، مع تعزيز الرقابة والعقوبات العلنية على كل مؤسسة تخالف القانون. فالحماية الاجتماعية ليست مجرد تسجيل في نظام، بل ضمانة واقعية للكرامة والعدالة. إن ترك النوار ينخر جسد المنظومة هو تواطؤ صامت مع السوق السوداء ضد مشروع ملكي يهدف إلى حماية الفئات الهشة وتكريس الإنصاف.
 
إن السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه اليوم: هل نريد تعميم الحماية الاجتماعية كشعار سياسي يُرفع في المناسبات، أم كحق فعلي يلمسه المواطن في لحظة ضعفه أمام المرض؟ الجواب يبدأ من مواجهة النوار بلا هوادة، لأن الاستمرار في التغاضي عنه يعني تقويض إحدى أهم الإصلاحات الاجتماعية في تاريخ المغرب المعاصر.