الخميس 28 مارس 2024
اقتصاد

بعد تفاحش أسعار المحروقات: الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي يحذر.. السيادة النفطية في خطر

بعد تفاحش أسعار المحروقات: الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي يحذر.. السيادة النفطية في خطر الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي (يمينا) وعزيز أخنوش، رئيس الحكومة
في مغرب اليوم لا بد من الإشارة إلى عنصر ثابت يمثل السمة الرئيسية الدائمة المميزة لهذه الإشكالية. وهو أن بلادنا للأسف غير منتجة للنفط، وهذا المعطى يترتب عنه وضع التبعية للأسواق الخارجية، حيث نظل نستورد كل حاجاتنا من النفط والغاز.
لابد من الإشارة كذلك إلى أن الصدمات النفطية ليست وليدة اليوم. ذلك أننا عشنا توالي الصدمات منذ الصدمة الأولى سنة 1973، وبعدها صدمات 1979 و1986... وإذا اقتصرنا فقط على الخمس عشرة سنة الماضية فسنجد صدمات 2007 و2008، ثم صدمات 2012 و2013... 

السؤال الكبير: ما الذي تغير بعد أن كانت لدينا، في السابق، إمكانات لمواجهة تلك الصدمات، حيث لم يحدث أن ارتفع سعر المحروقات إلى ما يقرب 15 درهما كما هو الحال اليوم. 
لنجيب عن هذا السؤال لابد أن نحدد سنة 2015 باعتبارها سنة مفصلية قياسا إلى الصدمات السابقة.
لتوضيح الصورة نشير إلى أن المغرب كانت له آليتان مضادتان للصدمات:

الأولى يمثلها "لاسامير"، وهو معمل لتكرير ولتصفية المادة الخام الذي يتوفر كذلك على مخزون ما يقرب مليوني طن تقريبا. وهو ما يشكل آلية مضادة للصدمات بين السوق الداخلية والسوق الخارجية. لكن مع الأسف وقع، في صيف سنة 2015، إفلاس "لاسامير". ولا مجال هنا للحديث عن ظروف خوصصة هذه الشركة في تسعينيات القرن الماضي، والفضائح المتعددة في هذا المسار إلى أن وضعت في موقع الإفلاس.

الآلية الثانية المضادة للصدمات تتمثل في دور الدولة التي كانت، قبل 2015، هي التي تحدد أسعار البيع بمرجعية مضبوطة، حيث حين تحدث تقلبات دولية ما تتدخل الدولة لتحافظ، بواسطة الدعم عن طريق المالية العمومية، على مستوى الأسعار بشكل مناسب، وتؤدي الفرق بين السعر الدولي والسعر المحلي. لكن هذا المعطى سيتغير في آخر سنة 2015. لقد وقع تحرير قطاع المحروقات باستثناء غاز البوتان.

هنا يجب التأكيد على حقيقة يعرفها الجميع وتفيد أن قطاع توزيع النفط كان عمليا قطاعا محتكرا. نعم كانت هناك شركات عديدة، لكن ثلاث شركات فقط هي التي تحتكر وحدها أكثر من 70 في المائة من السوق. وإذن وقع تحرير قطاع حيوي في غياب آلية الضبط ممثلة في مجلس المنافسة الذي لم يكن مفعلا، وكذلك ظل إلى نهاية 2018. ونحن نعرف أن في الفترة التي نتحدث عنها تفجرت قضية الأرباح الفاحشة المقدرة بـ 17 مليار درهم.، والتي بلغت حسب مسؤولي لاسامير 40 مليارا. كما نعرف أن مجلس المنافسة كان بعد تفعيله سنة 2018 قد بحث الموضوع، حيث استمر ذلك إلى سنة 2021 ليصل إلى خلاصة تفيد وجود ممارسات مضادة لقانون السوق. لكن بعدها توقف مجلس المنافسة دون أن نعرف شيئا عن حقيقة الاختلالات التي حددها التقرير الخاص بالموضوع، نخلص إلى تسجيل حقيقة أن الدولة لا تريد الإصلاح في هذا المجال، الإصلاح الذي يسير باتجاه احترام قواعد لعبة السوق واحترام الشفافية، والمنافسة الشريفة. إنها تريد فقط أن يبقى قطاع المحروقات قلعة للريع، والابتكار والابتزاز.

هذه هي الحقيقة ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها. إننا نواجه اليوم الأزمة بصدر عار. لم تعد لنا صناعة تصفية ولا إمكانات التخزين مع غياب "لاسامير"، ولا نظام للضبط ولا نظام للمنافسة ولا سوق مفتوح، ولا حرية بالمعنى الحقيقي. الثعلب حر في مكان الدجاج حيث الكل حر...

نخلص من ذلك إلى تأكيد أن السيادة النفطية في خطر. الدولة لا تتولى مهام الضبط. كما أن القطاع الخاص لا يقوم بواجبه، ولا يصرح بشفافية حول حقيقة الأسعار. إنهم يتصرفون كما لو أن تلك الحقيقة سر من أسرار الدولة.
هناك أمر آخر. في إطار هذا التحرير أصبحت الشركات تحدد الأسعار كل 15 يوما. وهذا مخالف لقانون المنافسة.

ثانيا: هناك الشراء المشترك، حيث تجتمع تلك الشركات كلها لشراء المواد النفطية. وهذا أيضا مضاد لقانون المنافسة. 
هذه الممارسات تبين أن التحرير كان مغشوشا.
والنتيجة أننا صرنا "لا ديدي لا حب ملوك". بمعنى أن لسنا في إطار نظام الدولة التي تضبط التوزان. ولسنا أيضا في نظام السوق، حيث المنافسة الحقيقية والشفافية، علما بأنهم كانوا يقولون لنا إن المنافسة ستؤدي إلى تخفيض الأسعار، وبأن المواطن هو المستفيد.
لكن الحقيقة أننا صرنا ضحية وضع هش جدا، حيث نعيش فقط مآسي النظامين معا.
الإشكالية الثانية تتعلق بموضوع التضخم.
لنبسط الأمر توضيحا وتلخيصا. إذ يمكن القول إن هناك صنفين من التضخم: 
 
الأول: يهم التضخم الناتج عن اختلال في السوق بين العرض والطلب. فحين يرتفع الطلب على مادة ما يبقى العرض هو هو، بمعنى أن الطلب يضغط على العرض، وتكون النتيجة بالتالي الزيادة في الأسعار. وهذا هو التفسير الكلاسيكي للموضوع.
الصنف الثاني: يهم التضخم الناتج عبر ارتفاع الكلفة بالنسبة للمقاولات L inflation par le cout. أي أن الكلفة بالنسبة إلى أي مقاولة ترتفع بارتفاع المواد، خاصة التي تندرج ضمن منتوج معين مثل المواد الأساسية أو المواد الخام، الخدمات، الأجور... وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار الذي يؤدي إلى التضخم.

ثم حين تستورد مادة من الخارج يكون سعرها الداخلي يعاني من الارتفاع، وهناك يحدث التضخم الذي يسمى التضخم المستورد  L inflation importée، هنا نكون إزاء عامل خارجي. إضافة إلى أن هناك عاملا داخليا موضوعيا يتعلق بضعف الإنتاجية.
لكن العامل الأساسي بالنسبة للاقتصاد المغربي هو الاحتكار والريع على صعيد الإنتاج ومسالك التوزيع.

وإلى يومنا هنا ليس هناك إرادة لإصلاح هذا القطاع لاعتبارات سياسية ومجتمعية معروفة. ففي غياب القوانين والشفافية تبقى فقط "الهمزة"، أي أن هناك من يستثمر في المضاربة في غياب قوانين السوق.
 لننتقل الآن إلى الإطار الماكرو-اقتصادي. وهنا علينا أن نوضح شيئا أساسيا، ذلك أن تضخم هذه السنة لا يشبه تضخم السنة الماضية، لأن من أدبيات الناحية الاقتصادية هناك التوازن الذي يجب أن تضبطه السلطات بين التضخم والبطالة. فهذه السنة ليس هناك تضخم (أقل من 2 في المائة). هذه السنة هناك ركود في المغرب بفعل الجفاف والحرب في أوكرانيا، ثم هناك الجائحة التي لم نخرج منها بعد.

إذن هذا ركود وكساد. ولكن هذه السنة سيكون الكساد المصاحب بالتضخم، وهي الحالة التي لم نعشها منذ 40 سنة بفعل العلاقة مع الاقتصاد العالمي الذي هو في أزمة. ثم هناك ارتفاع الكلفة باعتبار أننا تابعون للسوق الدولية. وينتج إذن عن هذه الكلفة الدولية المستوردة ارتفاع الأسعار.
إزاء كل هذا فإن السؤال المطروح اليوم:

ما هو جواب السلطات العمومية؟ 
حسب الكلاسيكيات الدولية فنحن أمام خطر التضخم، حيث نجد الدولة تقلص من الطلب الداخلي (الاستهلاك والاستثمار والميزانية العمومية). لكن ماذا تبقى في يد الدولة بعد التحرير هو الميزانية وسعر الفائدة المقرر من طرف بنك المغرب. هذه هي آليات هامش التحرك المخصصة للسلطات العمومية، وهي آليات محدودة جدا، فهل بإمكانها تقليص الميزانية والحال أن لديها التزامات اجتماعية (الضمان الاجتماعي والحوار الاجتماعي) بمعنى أن هامش التحرك قد قل.

من هنا النتيجة التي نخشاها: فإذا تمت سياسة التقليص من الطلب الداخلي، ومن الاستثمار، ومن رفع سعر الفائدة ومن المديونية، فإن من شأن تلك الإجراءات تعميق الأزمة بدون التقليص من التضخم.
 
السؤال الآخر: ما هو البديل أمام الوضع الحرج، المتأزم المتمثل في المأزق الحالي.
وهذا المأزق ناتج بعبارات جامعة كاملة عن العوامل التالية:
أولا: عوامل سياسية، حيث تم التخلي عن السيادة الوطنية عبر تعميق التبعية تجاه السياسة الدولية. 
ثانيا: تم تهميش دور الدولة في الاقتصاد، حيث تم إسقاط آلية الدولة للحفاظ على الحد الأدنى للتوازنات. 
إذن، وللحفاظ على المستقبل، ومحاولة فتح الأبواب لهذا المستقبل، ينبغي: 
أولا: إقرار سياسة تتطلب استرجاعا تدريجيا للسيادة الوطنية في مجال الغذاء والدواء...
ثانيا: إعادة الاعتبار لأدوار الدولة، لا بالمفهوم القديم للدولة، بل بصفة عقلانية حديثة، حيث المطلوب تفعيل أدوات الضبط..
هناك إجراءات استعجالية على المدى القريب هدفها إطفاء النار. منها: تسقيف الأسعار. والدعم المؤقت إذا اقتضى الحال. علما بأنه إذا تمت استعادة "لاسامير" فيمكننا اقتصاد درهمين مثلا.
ثم هناك أمر هام. على كل طرف، في وضعنا اليوم، أن يضحي، ويعطي "يد لله". 
ـ الدولة مثلا عليها أن تنقص جزءا من الضرائب كمساهمة منها في إخماد الحريق. 
ـ شركات التوزيع التي استفادت بشكل فاحش منذ 2015. أليس معقولا في هذا الوقت الحرج أن لا "تعطي يد لله" لتعبر عن حس وطني مواطناتي. وإن تقلصت شيئا من أرباحها، وهذا أضعف الإيمان.
كما على المواطن أن يضحي بالمقابل.
إذا تضافرت هذه الجهود سينخفض سعر المحروقات.
أما على المدى المتوسط فيجب بناء نظام جديد أكثر نجاحة وعدالة وإنصافا وشفافية. وهذا يتطلب إعادة تنشيط "لاسامير"، فالحاجة إلى آلية للتكرير ضرورية. وهذه الآلية لاتزال لها قدرة تنافسية بشهادة الخبراء. إنه مطلب ملح، وله مبرراته الاقتصادية. 
ثانيا: يجب إعادة تنظيم القطاع.
ـ إعادة تشغيل مجلس المنافسة ليقوم بمهامه.
ـ محاربة حالات الاحتكار.
ـ إعادة النظر في بنية الأسعار التي صارت متقادمة عبر حوار هادئ بين الفاعلين المعنيين. لأننا حين نتحدث عن بنية الأسعار نكون نتحدث عن حصة كل واحد من الكعكة.
ـ ثم هناك الحاجة لإصلاح صندوق المقاصة.
إن إشكالية الأسعار كبيرة. ولقد كانت مطروحة منذ أربعين سنة، ولا تزال مطروحة إلى اليوم بحدة. ومن ثمة الحاجة إلى نظرة شمولية لإصلاح منظومة الدعم والأسعار، وصندوق المقاصة.