بمجرد أن وطأت قدماها مدخل المقبرة، حتى استرجعت شريط حياة ابنها الذي كان يبلغ 23 سنة، حين قاده القدر لإحدى كوميساريات منطقة البرنوصي بالدار البيضاء، كان ذلك يوم 20 يونيو 1981.. لا يهم اسم الأم ولا اسم ابنها، فضحايا انتفاضة الخبز، أو ما سماهم الراحل ادريس البصري، وزير الداخلية في ذلك الزمن، بضحايا كوميرا، كما لم يفرق القمع والقتل في حقهم بين امرأة وشاب وطفل، لم تفرق المقبرة التي افتتحت مساء يوم الاثنين 6 شتنبر 2016، بينهم، فهي قبور رخامية بلا اسماء، قبور متساوية الأضلاع لا يعرف قبر الشاب عبد اللطيف من قبر حسناء من قبر الطفل ياسر. وإذا كان المنطق يفترض افتتاح مقبرة ليدفن فيها الموتى، فإن مقبرة الوقاية المدنية، شكلت الاستثناء، حيث تم طمر جثث الضحايا منهم من قتل بالرصاص الحي ومنهم من مات اختناقا بعد تكدس المحتجزين في الكوميساريات، في حفرة جماعية، ثم اكتشافها سنة 2004، واشتغل على الجثث فرق من الأطباء الشرعيين لمدة 36 ساعة، دون انقطاع، ضمن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة.. ليتم تحويلها لمقبرة..
35 سنة مرت على هذه الانتفاضة، التي جاءت على خلفية نداء للمركزية النقابية، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، انتفاضة كان ظاهرها الاحتجاج ضد غلاء المواد الاساسية، خبز زيت دقيق.. وباطنها احتجاج ضد القمع وتضييق الحريات، اعتقل من اعتقل وأدين من ادين وقتل من قتل واختطف من اختطف..
يوم 20 يونيو من تلك السنة، سالت دماء غزيرة في احياء البرنوصي وسباتة ودرب السلطان وسيدي عثمان وحي للامريم.. كان الرصاص يلعلع، لا يفرق بين متظاهر مدرك لأهداف الاحتجاج الشعبي، وبين من قاده القدر لزيارة عائلية أو قضاء غرض شخصي.. "خرج ولم يعد"، هي العبارة التي يرددها جل عائلات الضحايا خلال افتتاح هذه المقبرة المتواجدة بتراب مقاطعة الحي المحمدي، وبقدر معرفة مصير أبنائهم وأزواجهم وإخوانهم من الكبار والصغار من الذكور والإناث، فقد فتح عندهم جرح عميق لم يلتئم بعد مرور 35 سنة، منهم من ترك الزوجة حاملا، ومنهم من ترك الأم على فراش الموت، ومنهم من ترك ابناءه ينتظرون عودته بعد أن خرج يومها لشراء الحليب، ضاع المئات من المواطنين، وضاعت معهم أسرهم المكلومة، وضاع الوطن فيهم، ورغم قيام هيئة الإنصاف والمصالحة بأوامر ملكية مباشرة بتعويض الضحايا وذويهم، فإن الفراق كان صعبا، منهم من لايزال يحمل أثر التعذيب على جسده.. أم عجوز في الثمانينات، تحمل صورة ابنها وتضمها إلى صدرها، "لم يبق لي من ابني سوى هذه الصورة، كان حديث الزواج، لم يتجاوز عمره 25 سنة، لو بقي على قيد الحياة، كان اليوم على مشارف عامه الستين، من لي بضمة اضمه بها وأموت تحت قدميه.." تبكي العجوز بعد أن جفت عينيها من الدموع حزنا على ابنها..
هي مقبرة أرادها المجلس الوطني لحقوق الإنسان مزارا لأسر الضحايا، لكنها شكلت لجزء كبير منهم، معاناة جديدة لم يوضع لها حد من الترقب والانتظار، مادام أن ترسيم القبور تم بدون أسماء الضحايا، وبدون تحليل جيني للرفات، مما جعل الحقيقة نسبية في الكشف عن مصير الضحايا..