لا شك في أن قضية الصحراء عرفت في السنوات الأخيرة تحولات حاسمة كبرى، في سياق دولي متحول بوتيرة متسارعة، خاصة بعد انحسار النفوذ الجزائري في إفريقيا، وثبات فساد الأطروحة الانفصالية التي تتغذى على وهم تقرير مصير الشعب الصحراوي"، وتورط جماعة البوليساريو في مستنقع الإرهاب وتعاونها مع المجموعات المسلحة في دول الساحل وجنوب الصحراء الكبرى، ناهيك عن اعتراف أكبر الدول تأثيرا في السياسة الدولية (أمريكا/ إسبانيا/ ألمانيا/ فرنسا/ بريطانيا..) بمغربية الصحراء ووجاهة مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب منذ 18 سنة خلت بوصفه حلا يمكن أن يسهم في استقرار المنطقة ويضمن حقوق المغاربة الصحراويين المحتجزين في تندوف في إدارة شؤونهم بأنفسهم تحت السيادة المغربية.
هذه التحولات الهائلة، التي تنم عن اشتغال ديبلوماسي منظم وناجع، تفرض الالتفات قليلا إلى الوراء، أي إلى لحظة بدأت منذ ما يزيد عن ستة عقود، أي منذ سنة 1960 حين بادر المغرب (وليس الجزائر أو البوليساريو) إلى عرض قضية أراضيه الصحراوية على الأمم المتحدة لتسجل كأراضي محتلة من الدولة الإسبانية، حتى تفرض على هذه الأخيرة على مغادرة الأراضي المغربية. والحال أن أعداء الوحدة الوطنية، الذين لم يستطيعوا إمعان المغرب في المطالبة باسترجاع السيادة على أقاليمه، ناوروا وأغدقوا واستبسلوا ورفعوا البنادق وقرعوا الطبول من أجل إبدال إسبانيا بالمغرب، وإخراج كيان انفصالي من العدم للإبقاء على الملف حاضراً ضمن جدول أعمال اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، المكلفة بتصفية الاستعمار. وهي الخطة التي تبنى على آلية "وضع العصا في العجلة" لصرف بلدان المنطقة عن الانشغال الأساس بالتنمية والبناء.
لقد أتى هذا إدراج ملف الصحراء المغربية في "اللجنة الرابعة" في سياق تاريخي خاص، لم تكن الجزائر خلاله تتمتع باسم "دولة مستقلة" وكانت جزءا لا يتجزأ من فرنسا، إذ لم يحصل على استقلالهم الذي دام 132 سنة إلا في سنة 1962، كما أن البوليساريو لم يكن لها أي وجود فعلي أو حركي، ولا أي مطالب انفصالية. بل الأدهى من ذلك أن المغرب طالب، سنة 1963، الأمانة العامة للأمم المتحدة بإدراج إقليم الصحراء، الذي كان لا يزال آنذاك تحت السيطرة الإسبانية، ضمن قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، تمهيدًا لتصفية الاستعمار منه. غير أن تطور الأحداث أفضى، فيما بعد، بعد التلكؤ الواضح لإسبانيا، إلى إطلاق المسيرة الخضراء في 6 نونبر 1975، ثم بعد ذلك إلى توقيع اتفاق مدريد (14 نونبر 1975)، وهو ما قلبَ جميع المعطيات السياسية والقانونية، وحتى العسكرية، رأسًا على عقب، إذ لم تعد أقاليم الصحراء «مناطق مستعمرة»، بل جزءًا لا يتجزأ من السيادة الوطنية، تمارس عليه الدولة المغربية كافة اختصاصاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ورغم تحول المعطيات السياسية والميدانية، لم يتم إخراج ملف الصحراء من اللجنة الرابعة. وهذا يرجعه الباحثون الأكاديميون والخبراء الاستراتيجيات إلى «قوة البيروقراطية الأممية»، فضلا عن الحسابات السياسية القذرة التي تجمد، عن قصد وبعيدا عن أي مساع لإيجاد الحلول، ملفات حساسة في «حالة الستاتيكو»، والتعامل معها كأوراق فاعلة في التوازنات الجيوسياسية بين القوى الكبرى. وهو ما يفرض على المغرب الآن تعاملا آخر يبدأ أساسا من تعطيل الإشكال القائم، وحسم الملف في مجلس الأمن، خاصة أن «الحكم الذاتي» يحظى بإجماع دولي منقطع النظير.
لقد أصبح من الضروري اليوم تجاوز هذا الوضع وسحب الملف من اللجنة الرابعة قياسا إلى المعطيات الجديدة التالية:
أولًا: وضوح القرار المركزي بخصوص دور الأمم المتحدة، من خلال الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 49 لانطلاق المسيرة الخضراء: «لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها، وتوضح الفرق الكبير، بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته».وهو ما يعكس الحسم في التوجه السياسي والدبلوماسي للمغرب الذي لا يمكن أن يفرط في شبر واحد من أراضيه، أو التفاوض بشأن أي حلول غير واقعية.
ثانيا: تأييد إسبانيا «القوة المستعمرة للأقاليم الصحراوية» لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، واعترافها بحق المغرب على أراضيه، وتبنيها الواضح للحكم الذاتي.
ثالثا :اتضاح أن طبيعة النزاع لم تعد مرتبطة بتصفية استعمار، بل بصراع سياسي إقليمي مفتعل تذكي نيرانه الجارة الجزائر التي يعلم المنتظم الدولي أنها راعية الانفصال وصانعة البوليساريو والحالمة بالحصول على منفذ نحو المحيط الأطلسي.
رابعا: اتضاح أن البوليساريو ما هي إلى «بعبع عسكري» يموله الكابرانات من أجل تحقيق الهيمنة الإقليمية التي كان يطمح إليها الهواري بوخروبة وتابعه بوتفليقة. ذلك أن البوليساريو مجرد كيان مصطنع مسلوب الإرادة، ولا وجود خارج الأوراق التي ترفعها الجزائر المعاكسة الرباط. «لا يتعدى عدد الدول التي تعترف بالبوليساريو 28 دولة».
خامسا: القرارات الأممية نفسها لم تعد تستند إلى مفهوم الاستفتاء، بل إلى مبادئ «الحل السياسي الواقعي، المتوافق عليه، العملي، والدائم». ٱذ وصل عدد دول الاتحاد الأوروبي، التي تعبر عن دعمها لمبادرة الحكم الذاتي إلى أكثر من 23 دولة، في وقت بلغ هذا العدد 115 دولة على المستوى الدولي.
سادسا: تغير الواقع السياسي والقانوني يفرض على المغرب الآن، وأكثر من أي وقت مضى، توجيه مذكرة سياسية قانونية مدعومة بالحجج والمعطيات إلى الأمم المتحدة لسحب الملف من اللجنة الرابعة، خاصة، كما يذهب إلى ءلك بعض الخبراء، أن المبدأ القانوني المعتمد في «تصفية الاستعمار» يشترط، أولًا، أن تكون الأرض خاضعة فعليًا لسيطرة استعمارية أجنبية، وأن يكون «الشعب» المعني واقعًا تحت هذه السيطرة دون تمثيل سياسي. وهذا ما لا ينطبق على سكان الصحراء المغربية الذين يتمتعون بكل حقوقهم.
سابعا :انفتاح «مبدأ تقرير المصير»، الذي لا يمكن تفسيره دائما بالاستفتاء مادامت الأمم المتحدة قد تأكدت من إستحالة القيام به في ظل الواقع الميداني الحالي، ذلك أن تقرير المصير لا يكثر الاختيار بين هذا الفريق وذاك، بل يفتح المجال أمام حلول سياسية توافقية، تكون نابعة من الواقع.
ثامنا: اضطلاع مجلس الأمن الدولي منذ سنوات بمهمة تتبع الملف، بما أن أغلب مبعوثي الأمين العام أُوفدوا بقرارات منه، وبما أن سائر التقارير تصدر عنه، فهذا يعني أن استمرار وجود الملف في اللجنة الرابعة لم يعد له سند قانوني قوي، بل أصبح مجرد تكرار سنوي لخطابات دعائية، لا تأثير فعلي لها على مسار التسوية، بل تُستعمل أحيانًا لعرقلته، حسب بعض خبراء القانون الدولي.
إن إخراج الملف من اللجنة الرابعة يعني فقط إعادة الملف إلى السياق الذي أصبح يناسبه سياسيًا، وتسريع وتيرة طي الملف، وتذليل الطريق للمحتجزين للعودة إلى وطنهم، كما يعني أن الأمم المتحدة مدعوة للانتباه إلى المتغيرات، وخاصة إلى التحاق الموقف الدولي الفاعل بمقترح الحكم الذاتي المغربي، لأن هذا المتغير أصبح شاهدًا سياسيًا ودبلوماسيًا على أمرين: أولًا، الاعتراف بالسيادة الفعلية على الأرض، وثانيًا، تحوّل الإقليم إلى مجال منفتح للاستثمار الدولي، وللشراكات التنموية العابرة للحدود. وهذا ترجمة لوضوح الموقف المغربي تجاه حلفائه الاستراتيجيين، ونحو شراكاته الاقتصادية الدولية.
لقد بات واضحًا أن الانفصال فقد أضراسه ومخالبه وجذوعه، ولم يتبق إلا رأسه الذي ينبغي أن يتحلى بالشجاعة اللازمة زالقدرة على التفاعل مع المتغيرات الجديدة، بدل الاستمرار في السعي نحو تأبيد الصراع وتعطيل مسار التوافق حول مقترح الحكم الذاتي بوصفه الإطار السياسي الوحيد الممكن لحل النزاع.
لقد بات من الضروري، إذن، إعادة تأطير النزاع ضمن واقعه الحالي الجديد، بوصفه خلافا إقليميا سياسيا مفتعلا، لا علاقة له بتصفية الاستعمار، ولا علاقة له برغبة شعب في الانفصال، بل له كل العلاقة بمزاج سياسي بائد يقوم على حسابات إقليمية توسعية، تستعمل أطرافًا غير ذات سيادة لتمرير أجندات جيوسياسية تنتمي إلى الحرب الباردة. الكل يعلم ذلك، والكل ينتظر أن تتحلى الأمم المتحدة بشجاعة الاعتراف بأن النزاع قد انتهى وأن الصحراء في مغربها، والمغرب في صحرائه، والعمل الحقيقي على إنهاء واقع احتجاز الرهائن بمخيمات تندوف.