Thursday 3 July 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي: الأمراض المتنقلة جنسيا.. زمن الشموع الحديدية

أنور الشرقاوي: الأمراض المتنقلة جنسيا.. زمن الشموع الحديدية الدكتور أنور الشرقاوي
قصة مستوحاة من أحداث طبية واقعية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي 
كان ذلك زمنًا ليس بالبعيد يتراكض فيه الرجال نحو اللذة كما تتراكض الفراشات نحو النور.
 لا يلقون بالًا لما بعد النشوة، ولا يعيرون اهتمامًا لعواقب خفية تترصّدهم من وراء الأجساد.
زمنٌ قريب جدا كانت تُهمَس فيه الأمراض الجنسية في الآذان، لا تُذكر بأسمائها، وكأنّ التكتّم عنها يُخفّف من وطأتها أو ينفيها من الوجود.
زمنٌ كانت فيه الشهوة أسرع من الحكمة، والاقتراب الجسدي بلا درع، بلا حذر، في ظلال الأزقة الدافئة أو غرف العبث المظلمة.
كانوا رجالًا... شبابًا في زهرة العمر، أو متوسطي العمر تقطّعت بهم سُبل الاتزان، يسيرون من حضنٍ إلى حضن، باحثين عن رعشة عابرة، فلا يعودون إلا وهم يحملون نارًا خفية.
تلك النار، اسمها "السيلان"، وكانت تُعرف في الأزقة بلقب "الحرقة"، تُعلن حضورها بصمتٍ، ثم تستوطن، ثم تتجبر.
في الصباح، يُطلق الرجل صرخةً وهو يفرغ بوله، كأنّ جمرةً انغرست في أحشائه.
يسيل من عضوه سائلٌ أصفر، غليظ، كريه، لا يرحم، يفضح ليالي الطيش، ويشهد على خطيئةٍ لم تُغتَفر.
ومع ذلك، لا يقول شيئًا.
يصمت.
يتظاهر بالقوة.
يتوهم أنها ستمرّ كما يمرّ الزكام أو الحُمّى.
ويعود إلى حياته... مع الألم والإنكار، كتوأمين لا فكاك منهما.
لكن التعفن، في بعض الأحيان، لا يرضى بالقليل.
يزحف داخل قناة البول — تلك القناة الضيقة، الرقيقة، المختبئة بين أنسجة الرجولة.
يسدّها رويدًا، بخُبثٍ صامت.
حتى يتوقف الجريان.
ويتضخّم أسفل البطن كطنجرة على وشك الانفجار.
وتتحوّل كل ساعة إلى عذاب.
حينها فقط، يطرق الرجل باب الطبيب...
منهزمًا، خجِلاً، متوسلًا الخلاص.
لكن الطبيب لم يكن يملك في ذلك الزمن لا مضادات حيوية تنقذ : لقد نفذ زمن المضادات الحيوية المتوفرة في ذلك الوقت. 
ولا مواد مخدّرة تواسي، ولا قفازات ناعمة تُطمئن.
فقط كان يملك صندوقًا...
وصندوقه، أشبه بعدّة حرب:
أنابيب معدنية حديدية مستقيمة، بأحجام مختلفة، باردة، تُشبه الجنود في انتظار المعركة.
كان الطب يطلق عليها إسما تقنيا:    "الشموع".
شموع لا تُضيء...
بل تُدخَل، واحدة تلو الأخرى، في موضع الألم، لتفتح الممر المغلق، وتكسر الحاجز، وتعيد سيل الحياة إلى مجراه.
الرجل يصرخ.
يضغط على أسنانه حتى تنز دما، يتمسّك بحواف السرير، أو يهمس بدعاءٍ نسيه منذ زمن الخطيئة. 
لكن لا فرار.
الألم هو الطريق.
والألم هو الدواء.
هكذا كان الطب.
قاسٍ. صريح. بلا زينة.
لكنه كان الحقيقة.
 "زمن الشموع " كان زمنًا وحشيًّا، قريبا منا،  منذ عشرة او عشرين سنة خلت ، لكنه حمل في طيّاته دروسًا لا تُنسى:
أن الجسد لا يُهان بلا ثمن،
وأن الوقاية أرحم من علاجٍ بالحديد والنار.
ثم جاء الزمن الجديد.
زمن الأدوية التي تُشفى دون صراخ،
زمن الوعي، وزمن الجنس المستنير.
والشموع، تلك الشموع، صارت معروضة خلف زجاج المتاحف الطبية، إن وُجدت تلك المتاحف.
الإنسان لا يستفيد من دروس التاريخ. 
 لا زالت الأمراض الجنسية تفتك. 
  لا نتعلم من أخطائنا. 
لكن، في ذاكرة الكبار، وفي حكايات الأطباء الذين اشتعل الشيب في رؤوسهم، ما تزال تلك الصورة حيّة:
رجلٌ يلتفّ بالألم كعباءة،
وطبيب، بيده شمعة لا تذيب الظلام، بل تفتّح الممر لرجل انسدت أمامه الأبواب بسبب الخطيئة.