في ظل ما يعرفه المشهد التربوي التنشيطي المغربي من تشتت وتعدد غير منسجم في المبادرات والبرامج، تتصاعد الحاجة إلى وقفة تأمل جماعية لإعادة بناء تصور مشترك يؤطر الفعل التربوي في المخيمات، دور الشباب، والأنشطة الموازية. فالرهان اليوم لم يعد فقط تقنياً أو تدبيرياً، بل أصبح يرتبط بسؤال الهوية والمشروع المجتمعي الذي يُفترض أن يُشكل الإطار الناظم للعمل التنشيطي.
1- مشهد تنشيطي مشتت في غياب بوصلة مرجعية.
الواقع أن تعدد الفاعلين والمقاربات في مجال التنشيط – رغم ما يحمله من إمكانات تنويع وتجديد – أفرز في غياب مرجعية جامعة نوعاً من البلقنة. بين جمعيات تعمل بمنطق موسمي، وأخرى تركز على الترفيه المناسباتي، وثالثة تحمل رؤى مختلفة، يضيع الانسجام، ويضعف الأثر التربوي. وتصبح الأنشطة سطحية ومكررة، والروح التربوية غائبة أو باهتة، والعلاقة بين الفاعلين غير منسجمة، والمقاربة الإدارية تطغى على الأبعاد القيمية والتكوينية. كل هذا يؤكد الحاجة إلى بوصلة وطنية تستلهم من مرجعياتنا وتجاربنا.
2- نحو دور أكثر تكاملاً للوزارة.
لا يمكن تجاوز هذه الوضعية دون الإقرار بأن وزارة الشباب والثقافة والتواصل تبذل جهوداً معتبرة في التسيير والتنظيم، خاصة في ظروف معقدة. غير أن المرحلة تقتضي الانتقال من التدبير الإداري للبرامج إلى تعزيز أدوار التأطير التربوي والتوجيه الاستراتيجي.
فالمطلوب ليس فقط تنظيم المخيمات والأنشطة، بل الإسهام في صياغة مشروع تنشيطي تربوي وطني ينسجم مع التحولات المجتمعية، ويستثمر الغنى المرجعي والثقافي الذي تزخر به البلاد. وهنا يمكن للوزارة أن تقود هذا التحول من موقع الشريك الحاضن والموجه، عبر الإنصات لمختلف الفاعلين وتثمين خبراتهم.
3- المرجعيات التربوية الوطنية: كنز مهدور
المفارقة أن المغرب لا يفتقر إلى المرجعيات التربوية، بل يملك إرثاً فكرياً وتجريبياً ثميناً، أهمه:
أ. التربية الشعبية: مرجعية تحررية مغيبة
تُعد التربية الشعبية من أغنى المرجعيات الفكرية والممارساتية التي شهدها المغرب في المجال التنشيطي منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد تبنتها الجمعيات التقدمية كخيار تربوي بديل يسعى إلى بناء وعي نقدي، وتحرير الطاقات الفردية والجماعية، وجعل التنشيط أداة للمشاركة والمواطنة والتغيير. هذا التوجه لم يكن نظرياً فقط، بل تجسد عملياً من خلال تجارب رائدة، أبرزها:
حركة الطفولة الشعبية التي عملت على ترسيخ مفهوم التنشئة بالتحرر، وجعلت من المخيم والورشات والنوادي فضاءً للتربية على الحقوق، على الإبداع، وعلى التفكير النقدي. وقد راهنت منذ تأسيسها على تكوين الإطار المواطن، والمربي الواعي، والمشروع التنشيطي المرتبط بقضايا المجتمع.
الجمعية المغربية لتربية الشبيبة (لاميج) التي طورت تجربة نوعية في الربط بين التنشيط والعمل الثقافي التقدمي، واشتغلت على تقوية أدوات التكوين الذاتي والجماعي، وركزت على إدماج المفاهيم التربوية الحديثة في العمل الميداني، مع الوفاء لروح التربية الشعبية كمنهج يسعى إلى تعزيز كرامة الإنسان وتنمية قدراته على الفعل والتأثير.
التربية الشعبية بهذا المعنى تتجاوز فكرة التنشيط كترفيه، وتضعه في قلب مشروع تحرري شامل، يؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية، ويُحفّز الفاعلين التربويين على لعب دورهم كمؤطرين وموجهين وليس فقط كمنشطين عابرين.
ورغم عمق هذه التجارب وغناها، لا تزال التربية الشعبية مهمشة في السياسات العمومية، وغائبة عن التكوين الرسمي، وكأن المغرب يدير ظهره لإحدى أنضج مقارباته التربوية وأكثرها التصاقاً بالواقع.
ب. الفكر الكشفي: تربية شمولية من أجل الإنسان.
الفكر الكشفي يمثل بدوره مرجعية عالمية ذات جذور محلية قوية، يقوم على مبدأ التعلم بالممارسة، والتدرج، وتحمل المسؤولية، والانفتاح على الطبيعة. وقد ساهم في تنشئة أجيال متوازنة الشخصية، منفتحة، ومواطِنة. وعلى امتداد سنوات، لعبت الجمعيات الكشفية الوطنية دوراً كبيراً في بناء ثقافة الالتزام والتطوع والانضباط لدى الأطفال والشباب. غير أن هذا الفكر بدوره لا يحظى بما يستحقه من تثمين داخل البرامج الرسمية أو التصورات الوطنية للتنشيط.
4- من أجل ميثاق وطني للتنشيط التربوي.
الخروج من هذا الوضع لا يتم فقط عبر رفع الميزانيات أو تجهيز الفضاءات، بل يبدأ أولاً بصياغة رؤية واضحة المعالم. ولهذا، يبدو من الضروري:
- إطلاق حوار وطني لصياغة ميثاق وطني للتنشيط التربوي، بمشاركة الوزارة، الجمعيات الجادة، الممارسين، والباحثين،
- دمج المرجعيات الوطنية الأصيلة (كالتربية الشعبية والفكر الكشفي) في التكوين والتأطير والتقييم،
- تجديد دور الوزارة لتكون مرجعية موجهة وداعمة، لا مجرد مدبر إداري،
- ربط التمويل العمومي بمدى انسجام المشاريع التنشيطية مع الرؤية الوطنية المشتركة.
في الاخير نؤكد أن البلقنة الحالية ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة لغياب تصور مشترك وتراجع الدور التأطيري للمؤسسات. غير أن المستقبل يمكن أن يكون واعداً إذا استثمرنا في مرجعياتنا، وأعدنا الاعتبار للعمل التربوي التنشيطي كرافعة لتحرير الإنسان وتنمية المجتمع. إن بناء نموذج مغربي متميز في التنشيط لا يتحقق إلا بإرادة جماعية صادقة، وشراكة متكاملة بين الوزارة والمجتمع المدني، على أساس من الثقة، التقدير المتبادل، والالتزام بالمصلحة العامة.