يشكل قطاع استيراد اللحوم البيضاء والحمراء، إضافة إلى الأبقار الحية، أحد المكونات الاستراتيجية للأمن الغذائي بالمغرب، خاصة في ظل تراجع القطيع الوطني وفشل المغرب في تحقيق السيادة الغذائية.
وقد لجأت السلطات المغربية، خلال السنوات الأخيرة، إلى فتح باب الاستيراد على مصراعيه، مع اعتماد إعفاءات ضريبية وجمركية ودعم مباشر وغير مباشر للمستوردين، بهدف خفض الأسعار وضمان وفرة اللحوم في الأسواق الوطنية بثمن معقول. غير أن المعطيات الميدانية وشهادات مهنيين ومتابعين للشأن الاقتصادي تكشف عن انزلاقات خطيرة في هذا السوق، ترتقي في بعض الحالات إلى مستوى الغش والتدليس والمضاربة غير الأخلاقية، ما يفرغ التدخل العمومي من مضمونه الاجتماعي، ويحول الدعم العمومي إلى ريع خاص لفئة محدودة من مافيا المستوردين.
وقد لجأت السلطات المغربية، خلال السنوات الأخيرة، إلى فتح باب الاستيراد على مصراعيه، مع اعتماد إعفاءات ضريبية وجمركية ودعم مباشر وغير مباشر للمستوردين، بهدف خفض الأسعار وضمان وفرة اللحوم في الأسواق الوطنية بثمن معقول. غير أن المعطيات الميدانية وشهادات مهنيين ومتابعين للشأن الاقتصادي تكشف عن انزلاقات خطيرة في هذا السوق، ترتقي في بعض الحالات إلى مستوى الغش والتدليس والمضاربة غير الأخلاقية، ما يفرغ التدخل العمومي من مضمونه الاجتماعي، ويحول الدعم العمومي إلى ريع خاص لفئة محدودة من مافيا المستوردين.
المعطيات المتداولة في هذا السوق تكشف اختلالات خطيرة في بنية الاستيراد والتسعير، حيث يقوم بعض المستوردين المغاربة بشراء اللحوم من السوق البرازيلية بأثمان منخفضة جدا، مستفيدين من إعفاءات ضريبية كاملة ودعم مباشر وغير مباشر من الدولة المغربية، ثم يعيدون بيعها في السوق الوطنية بهوامش ربح تتجاوز في كثير من الحالات 80%، وأحيانا أكثر من ذلك بكثير، دون أي مبرر اقتصادي حقيقي يرتبط بالتكلفة أو النقل أو التخزين.
فالطن الواحد من اللحوم البرازيلية المبردة أو المجمدة يصل إلى ميناء الدار البيضاء بمعدل يقارب 45 ألف درهم، أي أن كيلوغرام اللحم لا يتجاوز في المتوسط 30 درهما عند الوصول، ومع ذلك يُباع للمستهلك المغربي بأثمان تصل إلى 80 درهما للكيلوغرام، أي بأكثر من الضعف، في ظل غياب شبه تام للشفافية حول سلسلة التسعير وهوامش الأرباح. والأمر نفسه يتكرر في ملف الأبقار الحية، حيث تُستورد العجول البرازيلية بأثمان تناهز 20 درهما للكيلوغرام، ثم تُسوَّق لاحقا داخل المغرب بأسعار مرتفعة لا تعكس كلفتها الحقيقية.
الأخطر من ذلك لا يقتصر على المضاربة في الأسعار، بل يتعداه إلى ممارسات تدخل في خانة الغش والتدليس والخداع، سواء تجاه المستهلك المغربي أو حتى تجاه الشركات البرازيلية نفسها.
ففي البرازيل، تختلف أثمان اللحوم حسب النوع والجودة والعمر والجنس، وهي معايير دقيقة ومعروفة في السوق الدولية، غير أن بعض المستوردين المغاربة يعمدون إلى شراء لحوم أبقار كبيرة في السن من البرازيل، وهي لحوم رخيصة ومنخفضة الجودة، ثم يعيدون تسويقها في المغرب على أنها لحوم عجول صغيرة في حدود سنتين، مستغلين ضعف آليات المراقبة وصعوبة التتبع لدى المستهلك.
كما يتم في حالات كثيرة شراء لحوم برازيلية عادية جدا، لا ترقى إلى أعلى معايير الجودة، ثم تقديمها في السوق المغربية على أساس أنها لحوم مذبوحة وفق الشريعة الإسلامية وبمواصفات “الحلال” الصارمة، ما يسمح ببيعها بأثمان مرتفعة، رغم أن الواقع لا يطابق دائما هذا الادعاء.
هذا التلاعب لا يسيء فقط للمستهلك المغربي المسلم، بل يضرب في العمق سمعة البروتين الحلال البرازيلي، الذي يُعد في الأصل من بين الأفضل عالميا من حيث التنظيم والمعايير والرقابة.
وتتجلى مظاهر هذا الجشع وهذه "اللهطة"، بشكل صارخ في بعض الأمثلة الفاضحة، حيث يُستورد الكبد من البرازيل بثمن يقارب 7 دراهم مغربية للكيلوغرام، ثم يُعاد بيعه في السوق المغربية بأثمان قد تصل إلى 70 درهم، وهو فارق لا يمكن تبريره بأي منطق اقتصادي، ويدخل بشكل واضح في خانة السلوك المافيوزي والاستغلال الدنيء للمستهلك وغياب أي حس بالمسؤولية الاجتماعية أو الأخلاقية، لكون هؤلاء المتورطين يحسون أنهم محميون من المساءلة والمتابعة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى ممارسات غير أخلاقية داخل مسار الصفقات نفسها، حيث تورط بعض التجار المغاربة، المحسوبين على جمعيات مهنية مغربية في قطاع المواشي، في خيانة وسطاء مغاربة اشتغلوا معهم في البرازيل لأكثر من شهر، وتكفلوا بالتواصل والسفر واللقاءات مع الشركات البرازيلية وتحملوا نفقات كبيرة، قبل أن يتفاجؤوا بقيام هؤلاء المستوردين المغاربة بالتواصل سرا مع مديري المبيعات وعقد صفقات مباشرة دون علم الوسيط، شملت شراء أزيد من 1200 عجل. والهدف من هذا السلوك، بحسب معطيات متداولة، هو إقصاء أي طرف قد يكشف ألاعيبهم في اختلاف أثمان العجول حسب النوع والمنشأ والجودة، وتمكينهم من تمرير النوع الأرخص للمغرب، على أنه الأفضل لتحقيق أرباح أكبر.
الضحية الأولى والأخيرة في كل هذا هو المواطن المغربي، الذي يثق في أن ما يُقدَّم له من غذاء هو "حلال" وآمن وعادل السعر، بينما الواقع يكشف أن جزءا من هذا السوق تحكمه منطق المافيا المنظمة، حيث لا مكان للأخلاق ولا للأمانة، بل فقط لتكديس الأموال غير المشروعة في الحسابات البنكية، ولو كان الثمن تشويه صورة المغرب التجارية، والإضرار بالعلاقات المغربية البرازيلية، وضرب الثقة في قطاع استراتيجي يمس القوت اليومي للمغاربة و"مص دم جوف" المغاربة البسطاء.
أمام هذه المعطيات، يصبح تدخل الدولة المغربية أمرا ملحا، ليس فقط عبر تصريحات "عامرة في خاوية" لذر الرماد في العيون، بل من خلال وضع قوانين صارمة وآليات مراقبة فعالة تفرض الشفافية في الاستيراد والتسعير، وتربط الدعم والإعفاءات الضريبية باحترام معايير الجودة والأمانة، وتُجرّم بوضوح كل أشكال الغش والتدليس وخيانة الأمانة في هذا القطاع.
فالأمن الغذائي لا يُبنى فقط بتوفير السلع، بل بحماية المستهلك من الاستغلال، وصون الثقة في ما يأكله، وحماية سمعة المغرب وشركائه الدوليين من عبث قلة حقيرة لا يمثلون إلا أنفسهم.
