رحل محمد ماء العينين في هدوء يليق برجال الظل… أولئك الذين لا تعنيهم الأضواء، بقدر ما يعنيهم أن تظل راية الوطن مرفوعة، وأن تُسمَع كلمته في المحافل الدولية بوقار وحجة.
عرفته مهنياً، وعرفته قبل ذلك من بعيد بصفته واحداً من أبناء الصحراء المغربية الذين لم يساوموا يوماً على مغربيتهم. وعندما اقتربت منه أكثر، وجدت فيه ما ندر: دبلوماسي بحسّ المثقف، ومناضل بلا ضجيج، ورجل سلطة لا يتعالى ولا يتكلّف. كان صادقًا في نياته، رصينًا في تعبيره، شديد التواضع في حضوره، حتى ليخيل إليك أنه لا يحمل كل هذا التاريخ الحافل خلفه.
قليلون هم الذين يجمعون السياسة بالخلق، والكلمة بالدلالة، والانتماء بالفعل لا بالشعار. وكان محمد ماء العينين واحداً من هؤلاء القلائل.
انطلق شابًا من قلب الاتحاد العام لطلبة المغرب، بشغف صادق وعقل مشبع بأفكار التحرر والالتزام الوطني، ثم تدرج بثبات داخل حزب الاستقلال، يشق طريقه في صمت، دون أن يتعجل شيئًا. لم يكن من أولئك الذين يصعدون على أكتاف الآخرين أو يهتفون في المنابر ليلفتوا الأنظار. بل من الذين يُصغَى إليهم حين يتحدثون، لأنهم يتحدثون بصدق ومن موقع المعرفة لا الادعاء.
وحين استدعته الدولة إلى ساحة الدبلوماسية، كان في الموعد. لم يذهب ليرتدي بدلة أنيقة ويلتقط الصور، بل ذهب ليمثل بلاده بكل ما فيها من تاريخ، وخصوصًا بكل ما تحمله قضية الصحراء المغربية من عمق وجداني واستراتيجي. من عمّان إلى بوينوس آيرس، ومن كانبيرا إلى مونتفيديو، ظل صوت المملكة واضحًا، ووجهها مشرقًا، بفضل مرافعاته الهادئة، وترافعه المقنع عن مقترح الحكم الذاتي، الذي آمن به واحتضنه بصفته مشروعًا واقعياً منبثقًا من الأرض، لا مفروضاً من فوقها.
ولم يكن أقل توهجًا في ميادين الفكر. في نادي الفكر التعادلي، الذي احتضنه الزعيم الراحل محمد بوستة، كان من الوجوه البارزة، المناقشة والمنتجة. له مساهمات فكرية رصينة، وله مسار حزبي منسجم مع ذاته، من التنظيم إلى العلاقات الخارجية، دون أن تفتر لديه الروح النضالية.
محمد ماء العينين لم يكن فقط “السفير”، بل كان ذاكرة من نضج وتجربة. لم يكن فقط ممثلًا للمغرب في الخارج، بل صورة من صور المغرب العميق في الداخل. المغرب الذي لا ينسى أبناءه حين يُخلصون له في السرّ كما في العلن.
برحيله، تفقد الدولة رجلًا جمع بين الاحترافية والنزاهة، وبين الوفاء والتواضع. ونفقد نحن، من عرفناه أو عملنا إلى جانبه، إنسانًا نادرًا في زمن صعب.
برحيله، تفقد الدولة رجلًا جمع بين الاحترافية والنزاهة، وبين الوفاء والتواضع. ونفقد نحن، من عرفناه أو عملنا إلى جانبه، إنسانًا نادرًا في زمن صعب.
وداعًا سي محمد… نم قرير العين، فقد كنت من الذين شرفوا المغرب حيثما حلوا، ومن الذين سيظل ذكرهم طيبًا، لأنهم عاشوا دون ادعاء… ورحلوا في صمت النبلاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون
إنا لله وإنا إليه راجعون
.png)
