أثار التعديل الذي أدخله مشروع قانون المالية لسنة 2026 على المادة 8 مكرر المتعلقة بتنفيذ الأحكام الصادرة ضد الدولة والجماعات الترابية مرة أخرى جدلا واسعا داخل الأوساط الحقوقية والاقتصادية.
في هذا السياق، تسلط "أنفاس بريس" الضوء على هذا الموضوع، مع مصطفى محمد صدقي، محامي بهيئة الدار البيضاء، حول مضامين هذا التعديل وتداعياته المتوقعة على النسيج الاقتصادي والمقاولات المغربية التي تتعامل مع الدولة والجماعات الترابية.
"يمثل هذا التعديل خطوة واضحة إلى الخلف في مسار تكريس دولة الحق والقانون. فبعد سنوات من الانتقاد الموجه للصياغة الأولى للمادة ضمن قانون المالية 2020، يعود المشرع اليوم في قانون المالية 2026 بتعديل يزيد الوضع تعقيدا، عوض إصلاح مكامن الخلل التي حولت تنفيذ الأحكام القضائية إلى مشهد عبثي، يتضرر منه المتقاضون والمقاولات، ويسجل فيه على الإدارة تقاعس قانوني عن الوفاء بالتزاماتها.
التعديل الأساسي الذي جاء به قانون المالية لسنة 2026 يتمثل في تمديد أجل تنفيذ الأحكام من أربع سنوات إلى ست سنوات كاملة في حالة عدم توفر الاعتمادات، وهو ما يشكل زيادة غير مبررة في المدة التي يسمح فيها للإدارة بتأجيل التنفيذ. كما نص على فترة انتقالية تمنح سنتين إضافيتين قبل دخول هذه الأحكام حيز التطبيق، وهو ما يجعل المقاولة أو المتقاضي بصفة عامة الذي حصل على حكم نهائي ضد الدولة أو الجماعة الترابية مطالبا بالانتظار لمدة قد تتجاوز عشر سنوات قبل استخلاص حق ثابت له بحكم قضائي واجب التنفيذ.
ذلك أن الدعاوى الإدارية في المغرب تستغرق في المتوسط أربع سنوات لتصدر المحكمة حكمها الابتدائي والاستئنافي. ومع التوجه الجديد في مشروع قانون المسطرة المدنية الذي يشترط انتظار قرار محكمة النقض قبل إمكانية الشروع في التنفيذ، فإن الطعن بالنقض سيضيف ثلاث سنوات أخرى على الأقل. ثم يأتي التعديل الجديد للمادة 8 ليمدد أجل التنفيذ إلى ست سنوات إضافية. بمعنى أن المقاولة التي تقاضي الإدارة ستنتظر أكثر من عشر إلى أربع عشرة سنة حتى تصل إلى لحظة صرف مستحقاتها. وهذه مدة لا يمكن لأي مقاولة أن تتحملها، خصوصا المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد في نشاطها على السيولة المتدفقة، وليس على حقوق معلقة.
إن هذا التعديل يمس بمبدأ دستوري أساسي، وهو قدسية الأحكام القضائية ووجوب تنفيذها. فالحكم القضائي الذي لا ينفذ يفقد قيمته، ويصبح – كما يقال – مجرد ورقة لا تغني ولا تسمن، مهما علت درجة المحكمة التي أصدرته. والواقع أن احترام الإدارة للأحكام القضائية لا يعد امتيازا تمنحه حين تشاء، بل هو التزام قانوني ودستوري وأخلاقي قبل كل شيء.
بل إن الضرر لا يقف عند حدود المس بمنطوق الأحكام، بل يمتد ليضرب ثقة المستثمرين والمقاولات في التعامل مع الدولة والجماعات الترابية. كيف يمكن لمقاولة أن تؤدي أجور العمال والوفاء بالتزاماتها اتجاه الأبناك، وتساهم في الاقتصاد الوطني، وتلتزم بواجباتها الجبائية والإجتماعية، في حين أن الإدارة التي استفادت من خدماتها لا تؤدي مستحقاتها إلا بعد عشر سنوات أو أكثر؟ إن منح الإدارة آجالا بهذا الطول، دون إمكانية الحجز على أموالها، ودون تحمل مسؤولية مالية أو جزائية عن التأخير، يجعلها عمليا خصما يعلو فوق قواعد العدالة ولا يخضع لمبدأ المساواة بين أطراف النزاع.
المؤسف أن هذا التعديل لا يعالج أصل الإشكال، بل يعمقه. فالمطلوب ليس تمديد آجال الدفع، وإنما إصلاح المنظومة برمتها: تقليص أمد التقاضي، إحداث صناديق مخصصة لتنفيذ الأحكام، محاسبة الآمرين بالصرف المتقاعسين، وإعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. أما منح الإدارة امتيازات إضافية، وتمديد آجال التنفيذ بهذا الشكل، فهو يضرب في العمق فلسفة دولة القانون، ويبعث رسالة سلبية مفادها أن حقوق المتقاضين ليست أولوية، وأن الإدارة محمية حتى في وضعيتها المخالفة للقانون.
إن دولة القانون لا تقاس بعدد الأحكام الصادرة، بل بعدد الأحكام المنفذة. أما الحكم الذي ينتظر صاحبه أكثر من عقد لينفذ، فليس حكما، بل عبء يقوض الثقة في العدالة، ويمس بصورة المغرب لدى مستثمريه المحليين والدوليين. لذلك يبدو أن الوقت قد حان لإعادة النظر في توجيه المادة 8، وإحداث توازن حقيقي بين حماية المال العام وبين ضمان حقوق المتقاضين".