Saturday 1 November 2025
Advertisement
سياسة

عبدالرحمان رفيق: ما لم يُقال عن الصحراء.. كيف قرأت الرباط عقل الغرب وأغلقت ملف التردد الدولي

عبدالرحمان رفيق: ما لم يُقال عن الصحراء.. كيف قرأت الرباط عقل الغرب وأغلقت ملف التردد الدولي عبدالرحمان رفيق
لم تنتصر الرباط في ملف الصحراء بالخطابات، بل بقدرتها النادرة على فهم ما تريده القوى الكبرى قبل أن تصرح به. في الكواليس، لم تكن معركة بيانات أو مرافعات قانونية، بل معركة في ميدان الإدراك الاستراتيجي: كيف تفكر واشنطن؟ ما الذي يقلق باريس؟ ما حدود مناورة مدريد؟ وكيف يمكن لبكين وموسكو أن تريان في الصحراء فرصة لا تهديدًا؟ هذا ما جعل المغرب يربح قبل التصويت، لأن الرباط لم تخاطب العالم من موقع الشكوى، بل من موقع المهندس الذي يعرف تضاريس المصالح الدولية ويرسم الجسور بينها. فقد أدركت الرباط أن الغرب لا يريد صراعًا جديدًا في شمال إفريقيا، ولا يريد دولة فاشلة في الساحل تفتح الباب للهجرة والإرهاب، ولا يستطيع أن يغامر بفراغ استراتيجي على حدود المتوسط. فكان الحكم الذاتي هو الجواب الذكي الذي يجمع الأمن بالتنمية ويمنح الغرب ما يبحث عنه دون أن يتنازل المغرب عن جوهر سيادته.
 
واشنطن رأت في المقترح المغربي فرصة لتثبيت استقرار دائم يقيها تكلفة الانفجار الأمني في الساحل، ويحافظ على استثماراتها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة. فرنسا، التي فقدت نفوذها في إفريقيا، وجدت في دعم المغرب مدخلًا لإعادة تموضعها بطريقة ذكية عبر شراكة اقتصادية ودفاعية جديدة، بدل المواجهة العقيمة مع الرأي العام الإفريقي. إسبانيا صوّتت في العمق لمصلحتها الوطنية: إنها تعلم أن استقرار الصحراء يعني استقرار جزر الكناري وحدودها البحرية، وأن أي توتر هناك سيرتد عليها مباشرة في ملف الهجرة والطاقة. بريطانيا رأت في الرباط نموذجًا لمعادلة "الربح المزدوج": دولة حليفة للغرب، مستقرة، وقادرة على ضبط محيطها الإقليمي دون أن تتورط في حروب.
 
أما الصين وروسيا، فكان رهانهما مختلفًا. لم تساندا المغرب علنًا في كل تفاصيل الملف، لكنهما تفهمتا معادلة السيادة المغربية كمفتاح لبناء شراكات اقتصادية بعيدة عن نفوذ الغرب، خصوصًا مع انفتاح الرباط على طريق الحرير الجديد ومشاريع الطاقة المتجددة. هنا برزت براعة المغرب في إدارة التوازنات: لا يصطدم، لا ينحاز، بل يوظف التناقضات الكبرى لصالحه، فيتحول إلى شريك ضروري لكل طرف دون أن يفقد استقلاليته. لقد بنت الرباط خطابها على الواقعية الذكية: "نحن لا نطلب دعمًا سياسيًا، بل نعرض حلاً يخدم استقراركم ومصالحكم"، فكان الجواب بالإجماع تقريبًا.
 
وراء هذا النجاح شبكة دقيقة من التحركات الميدانية: دبلوماسية اقتصادية مدروسة، تحالفات أمنية هادئة، ومشاريع تنموية في الأقاليم الجنوبية تبرهن على أن الحكم الذاتي ليس شعارًا بل واقعًا يتحقق أمام العيون. هذا ما جعل العواصم الكبرى ترى في المغرب نموذجًا للحكم الرشيد في بيئة مضطربة، وليس مجرد طرف في نزاع. الرباط لم تكتفِ بإقناع العقول السياسية، بل أقنعت الأسواق والشركات وصناديق الاستثمار بأن الاستقرار المغربي مضمون بالمنطق والنتائج.
 
اليوم، بعد أن صوتت القوى الكبرى لصالح المقاربة المغربية، تدخل الرباط مرحلة جديدة: ترجمة الانتصار السياسي إلى هندسة استراتيجية واقتصادية كبرى، تشمل جذب الاستثمارات إلى الصحراء، توسيع البنية التحتية البحرية واللوجستية، وبناء محور طاقي يربط إفريقيا بأوروبا عبر الأراضي المغربية. بهذا المنطق، لم يعد الملف نزاعًا ترابيًا، بل مشروعًا لإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية لشمال إفريقيا.
 
الانتصار المغربي إذن ليس نهاية الصراع، بل بداية بناء موازين جديدة. الرباط تعرف أن خصومها سيحاولون المناورة، لكنها تمتلك الآن عناصر قوة متشابكة: شرعية قانونية، دعم دولي، وواقعية اقتصادية يصعب كسرها. لقد استطاع المغرب أن ينتصر دون أن يرفع صوته، لأنه فهم قواعد اللعبة وصاغ المعادلة من الداخل: منطق الربح للجميع، وسيادة لا تُساوم. ومن هنا، سيبدأ فصل جديد، ليس في ملف الصحراء فقط، بل في هندسة توازنات شمال إفريقيا بكاملها.
 
عبدالرحمان رفيق، مهندس مدني وباحث سياسي متخصص في الشأن الدولي