Thursday 16 October 2025
Advertisement
فن وثقافة

قراءة في جماليات السرد الانثوي .. رواية " كازا بلانكا" للكاتبة  عائشة العلوي انموذجا 

قراءة في جماليات السرد الانثوي .. رواية " كازا بلانكا" للكاتبة  عائشة العلوي انموذجا 
رواية "دروب كازا بلانكا" للكاتبة عائشة العلوي لمراني تنتمي إلى ذلك النمط الأدبي الذي لا يكتفي بسرد الحكاية، بل ينسج من اللغة نسيجًا داخليًا يعكس تحولات الذات والمدينة في آنٍ واحد. منذ العنوان، تفتح الكاتبة بابًا رمزيًا نحو دروب ليست فقط جغرافية، بل نفسية، اجتماعية، وتاريخية، حيث تتحول مدينة الدار البيضاء إلى مرآة تعكس وجوهًا متعددة للمرأة المغربية، وللذاكرة الجمعية التي تسكنها.
 
اللغة في الرواية تتسم بجمالية خاصة، فهي لا تنحاز إلى الزخرفة المجازية على حساب المعنى، بل توازن بين الشاعرية والواقعية، فتمنح القارئ شعورًا بأن كل جملة تحمل وزنًا وجدانيًا، وكل وصف يفتح نافذة على عالم داخلي. الكاتبة تكتب بعينٍ ترى التفاصيل الصغيرة، وتمنحها قيمة سردية، فتتحول لحظات العبور في الشوارع، أو نظرات المارة، إلى إشارات دالة على تحولات أعمق في الذات والهوية.
الشخصيات النسائية في الرواية ليست نماذج نمطية، بل كائنات متفردة، تحمل في داخلها طبقات من الألم، والحنين، والتمرد الصامت. البطلة، التي قد تكون امتدادًا لذات الكاتبة، تعيش المدينة ككائن حي، تتفاعل معه، وتعيد تشكيله عبر ذاكرتها وتجاربها. المدينة ليست خلفية للأحداث، بل شريك في السرد، تتنفس مع الشخصيات، وتضيق حين تضيق أرواحهن، وتتسع حين تنفتح على الحياة. هذا التفاعل بين المكان والذات يمنح الرواية طابعًا تأمليًا، يجعل من كل مشهد فرصة للتفكر في معنى الانتماء، والهوية، والعبور.
 
الزمن في الرواية لا يسير بخط مستقيم، بل يتداخل فيه الماضي بالحاضر، وتتشابك الأزمنة في نسيج سردي يخلق توترًا داخليًا. الذاكرة تلعب دورًا محوريًا، فهي ليست مجرد استرجاع، بل إعادة تشكيل للحاضر، ومحاولة لفهم الذات من خلال ما مضى. هذا التداخل الزمني يمنح الرواية بعدًا فلسفيًا، يجعل من السرد رحلة داخلية بقدر ما هو سرد خارجي.
 
الرواية تنتمي إلى أدب المدن، لكنها تتجاوز ذلك لتكون نصًا عن المرأة، عن الحنين، عن التغيرات الاجتماعية التي تمس الجسد والروح. الكاتبة لا تكتب عن كازا بلانكا فقط، بل تكتب عن كل مدينة تسكنها امرأة تبحث عن ذاتها، عن صوتها، عن مكانها في عالم يتغير بسرعة، ويطالبها بالتكيف دون أن يمنحها الوقت للتأمل. في هذا السياق، تتحول الرواية إلى شهادة وجدانية، وإلى فعل مقاومة ناعم، يواجه النسيان بالتذكر، والسطحية بالعمق، والضجيج بالصمت المتأمل.
 
أسلوب الكاتبة يتسم بالصدق الفني، فهي لا تفرض على القارئ رؤية جاهزة، بل تترك له مساحة للتأويل، وللتفاعل مع النص ككائن حي. الجمل تنساب كأنها موسيقى داخلية، تحمل في طياتها نَفَسًا شعريًا، دون أن تفقد تماسكها السردي. هذا التوازن بين الجمال والوظيفة يمنح الرواية طابعًا خاصًا، يجعلها تجربة قراءة لا تُنسى، ويجعل من الكاتبة صوتًا يستحق الإصغاء.
 
إن رواية  "دروب كازا بلانكا" ليست فقط رواية عن مدينة، بل عن امرأة، عن وطن داخلي، عن ذاكرة تتشكل وتتشظى، عن لغة تبحث عن نفسها في زحام الأصوات. إنها رواية تُقرأ بالقلب قبل العقل، وتُحسّ قبل أن تُفهم، وتترك أثرًا يشبه أثر العطر في المساء، لا يُرى، لكنه لا يُنسى.
 
في هذا العمل، لا تكتفي الكاتبة بتقديم سردٍ حكائي، بل تنسج من كل فصل تأملًا وجوديًا، ومن كل شخصية سؤالًا عن الذات والآخر. هناك حسّ عميق بالانتماء الممزق، حيث تتقاطع الهويات بين ما هو مغربي أصيل وما هو وافد، بين ما هو أنثوي داخلي وما هو اجتماعي مفروض. البطلة لا تبحث عن خلاص، بل عن فهم، عن لغة تستطيع بها أن تروي نفسها دون أن تُختزل أو تُصنّف. وهذا ما يجعل الرواية تنتمي إلى أدب المقاومة الهادئة، حيث الكلمة تصبح فعلًا، والبوح يصبح موقفًا.
 
ان المدينة، في هذا السياق، ليست مجرد خلفية، بل كيانٌ يتفاعل مع السرد، يختزن الذاكرة، ويعيد إنتاجها. كازا بلانكا تتحول إلى رمزٍ للعبور، للضياع، ولإمكانية اللقاء. هي مدينة لا تُحتوى، لكنها تحتضن، لا تُفهم، لكنها تُحسّ. ومن خلال هذا التوتر، تنجح الكاتبة في خلق فضاء سردي نابض، يجعل من الرواية تجربة شعورية قبل أن تكون تجربة فكرية.
 
ويبدو الأسلوب الذي تنتهجه الكاتبة يتسم بالهدوء العميق، لا يصرخ، لا يبالغ، بل ينساب كالماء، يلامس القارئ دون أن يصدمه، ويوقظه دون أن يزعجه. هناك نَفَسٌ شعري في السرد، لكنه لا يطغى على البناء الروائي، بل يخدمه، يمنحه نغمة داخلية، ويجعله أقرب إلى التأمل منه إلى الحكي التقليدي. وهذا ما يمنح الرواية طابعًا خاصًا، يجعلها تنتمي إلى الأدب الذي يُقرأ ببطء، ويُعاد تأمله، لا يُستهلك في جلسة واحدة.
في النهاية، "دروب كازا بلانكا" ليست فقط رواية، بل مرآةٌ للمرأة التي تسكن المدينة وتسكنها، للذاكرة التي لا تنطفئ، وللكلمة التي تبحث عن شكلها في عالمٍ يتغير. إنها عملٌ أدبي يليق بأن يُقرأ في الثلث الأخير من الليل، حين تصمت الضوضاء، وتعلو الأصوات الداخلية، وتصبح الرواية رفيقةً للروح الباحثة عن معنى، وعن دربٍ لا يُرسم إلا بالكلمات.