Thursday 7 August 2025
منبر أنفاس

الداودي سفيان: من "مخيم التربية الشعبية" إلى "مخيم الصورة ".. نداء لإعادة المعنى

 
 
الداودي سفيان: من "مخيم التربية الشعبية" إلى "مخيم الصورة ".. نداء لإعادة المعنى الداودي سفيان
في العقود الماضية، كانت المخيمات الصيفية منصاتٍ حيّة للتربية الشعبية، مدرسةً في الهواء الطلق، تُصنع فيها التجارب الجماعية، وتُبنى فيها شخصيات الأطفال عبر اللعب، الحوار، والاكتشاف. كانت المخيمات معارك صغيرة من أجل الوعي، ومشاتل مواطنة تتنفس الحرية والتعاون والمساءلة
أما اليوم، وفي زمن الهوس بالصورة، والانبهار بالوصول الرقمي، تُختزل هذه اللحظة الجماعية في "كادر" مصوَّر، ويُقاس "النجاح التربوي" بعدد "الإعجابات" و"التعليقات"، لا بتحولات الطفل ولا بأسئلته. لم تعد الصورة أداة توثيق فحسب، بل أصبحت بديلاً للرأي الآخر، للتقييم، للتقرير، وللعملية التربوية برمّتها
بل الأدهى من ذلك: ما لا يُصوَّر، لا يُعتبر موجوداً

 أولا:  الصورة كسلطة جديدة في التخييم
في كل مخيم، تتغير الأدوار بصمت: القائد لم يعد منشطاً فقط، بل مطالب بأن يكون مصوراً، محرراً، ومروّجاً رقمياً. تُعاد الأنشطة أحياناً لا لتحسين الأثر التربوي، بل للحصول على لقطة أنسب. تُختزل الورشات في صور، ويُغتال الزمن التربوي لصالح اللحظة الفوتوغرافية
هكذا، بدأت الصورة تفرض سطوتها 
على الجمعيات: فالنشاط الجيد هو ما تم توثيقه -
على المانحين: فالتمويل يُبرر عبر الألبومات-
على الأسر: فوجود الطفل مرتبط بما يظهره المنشور-
على الأطر التربوية: فالمُحتفى به هو من "يصنع البوست" لا من يصنع المعنى
أصبح الطفل يُقدَّم كـموضوع عرض، لا كـموضوع رعاية 

ثانيا : حين تُقصى الكلمة: غياب التقييم مقابل حكم "الفايسبوك
في زمن التربية الشعبية، كانت الكلمة سيّدة الفضاء التربوي: تقارير تُكتب، تقييمات تُنظّم، حوارات تُدار، وتساؤلات تُطرح. كان لكل لحظة أثر، ولكل نشاط تحليل.
اليوم، أُزيحت الكلمة لصالح "البوست"، وغُيِّب التقرير لصالح "الألبوم"، وصمت النقد الداخلي لصالح "اللايك
بل إن النشر بات يُستخدم لإسكات الصوت الآخر. فبمجرد أن تُنشر صورة، يصبح كل نقد داخلي كأنه "خيانة" للعمل الجماعي! وكأن النشر أنهى النقاش
هل تم تقييم النشاط فعلاً؟
هل شارك الأطفال بعمق؟
هل خرجنا بتعلم جماعي؟
كلها أسئلة تُغتال، وتُستبدل بعبارات جاهزة مثل 
نشاط تربوي رائع ومميز، شكراً لكل من ساهم من قريب ومن بعيد وعاشت منظمنتنا
ثالثا : الصورة كوثيقة تفاوض لا كأداة تربية
ليست هذه الممارسات بريئة، بل هي جزء من منطق تسويقي زاحف
فالصورة أصبحت الوثيقة الأساسية للتفاوض مع المانحين، الجهات الرسمية، وحتى الرأي العام. تُستخدم لتبرير التمويل، لعرض عدد الأطفال، لإبراز حركية التنظيم
لكن أي معنى لنجاح لا يُقاس إلا بصرياً؟
هل نُربي الطفل أم نُسوقه؟
هل نؤطر أم نُبرمج محتوى للمتابعة؟
 
حين يُختزل المخيم في ألبوم صور، يُمحى جوهر التربية، وتُصبح "الجمعية النشيطة" هي من تنشر أكثر، لا من تؤثر أكثر
رابعا : خطر طمس جوهر التربية الشعبية
في خضم هذا السباق البصري
تُقصى روح النقاش الجماعي -
     يُستبدل التأطير بالتروي -
تُهمّش اللحظات العميقة – التي لا تُصوَّر – لصالح المشاهد  الجماعية
يُكافأ المروّج، ويُنسى المؤطر -
تُفرَّغ المخيمات من وظيفتها الأصلية: لا حوار، لا بناء جماعي، لا مساءلة. نعيش لحظات استعراضية، ونتغاضى عن لحظات التحول التربوي
نُربّي صوراً جميلة، لا أطفالاً واعين 
خامسا: نحو تربية رقمية شعبية: البدائل الممكنة
لسنا ضد الصورة لكننا ضد استعبادها لنا، ضد أن تُقصي المعنى، وتُخضع المخيمات لمنطق السوق والتسويق
ولأجل ذلك، نقترح ما يلي 
● ميثاق أخلاقي للنشر التربوي 
كل جمعية مطالبة بوضع ميثاق داخلي
من يُصوّر؟
لماذا نُصوّر؟
هل للطفل وولي أمره علم بذلك؟
ما هو المعنى التربوي للنشر؟
● استعادة قيمة التقرير التربوي الميداني
التقارير اليومية وجلسات التقييم الجماعي ليست ترفاً، بل ركيزة كل مشروع تربوي جاد.
● إدماج ورشات للتربية الرقمية
على المخيمات أن تُعلّم الأطفال معنى الصورة، حدود النشر، وحقوقهم الرقمية. لا أن تضعهم في الواجهة دون وعي.
● تدريب الأطر على التقييم لا على الترويج
المنشط مربي لا صانع محتوى. وجب دعمه في أدوات التأطير الذاتي، القيادة الجماعية، والتفكير النقدي

أخيرا : من أجل إعادة مركزية الطفل لا صورته
لقد دخلت التربية الشعبية نفقاً رقمياً قاتماً، تُقاس فيه الجودة بالوصول، لا بالأثر. وتُختزل التجربة في صورة، والتقويم في تعليق
إنه انقلاب ناعم على جوهر المخيم و تسليع صامت للطفولة
        . تهميش للمربين الحقيقيين، وتكريس لمن يتقن الترويج 
فهل نجرؤ على النقد الذاتي من داخل التنظيمات التربوية؟
هل نعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول
معنى النجاح؟
مركزية الطفل؟
القيمة التربوية الفعلية لكل ما نقوم به؟
إن لم نفعل، فسنجد أنفسنا في "مخيمات رقمية" تعجّ بالهواتف، والابتسامات المصطنعة، والمنشورات الجذابة... لكنها خالية من الصدق، ومن الأثر، ومن جوهر التربية الشعبية.