صادق مجلس النواب، يوم الثلاثاء 22 يوليوز 2025، في جلسة عمومية على مشاريع قوانين تقدمت بها الحكومة منها ما يتصل بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، بيد أن هذه الجلسة العمومية تميزت هي الأخرى بغياب حوالي 300 نائب ونائبة، وهو الأمر الذي أعاد إشكالية تَغَيُّب النواب عن الجلسات العمومية المخصصة للدراسة والتصويت على مشاريع القوانين العادية والتنظيمية لواجهة النقاش العمومي، ذلك أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها البرلمان ظاهرة عدم حضور النواب للجلسات العمومية وأشغال اللجان الدائمة، حيث أضحت هذه الظاهرة مألوفة ليس فقط عند النواب أنفسهم، بل عند المواطنين أيضا خاصة الذين يتابعون جلسات البرلمان التي يتم بثها مباشرة عبر قنوات التلفزة العمومية، بحيث يظهر البرلمان المغربي في أحايين كثيرة شبه فارغ في مشهد لا يليق بتاريخ مؤسسة دستورية عريقة تصرف عليها أموالا كبيرة من ميزانية الدولة، إلا أنها أصبحت تعاني خللا وظيفيا بفعل تظافر العديد من العوامل الموضوعية والذاتية من جملتها ظاهرة غياب ممثلي الأمة التي أصبحت تمثل تحديا استعصى على هياكل البرلمان بمكونيه (النواب والمستشارين) معالجته والحد منه!
إن ما يدعو للتعجب والاستغراب إزاء هذه الظاهرة التي فيها، من الناحية المبدئية، اخلال من البرلمانيين بمهامهم النيابية والأخلاقية التي تقتضيها وظيفة التمثيلية السياسية والنيابية، هي أنها لا زالت مستمر بالرغم من التدابير "شبه التأديبية" التي نص عليها النظام الداخلي لمجلس النواب، وبالرغم من الإجراءات التي تم استحداثها عبر الجزء الحادي عشر من مدونة الأخلاقيات البرلمانية بموجب النظام الداخلي لمجلس النواب، كما أقرته المحكمة الدستورية بقرارها رقم 243/24 الصادر بتاريخ 07 غشت 2024، حيث نص النظام الداخلي المذكور داخل دفتيه على ضرورة الحضور لأشغال الجلسات العمومية كما هو الشأن بالنسبة للمادة 166 التي تُلزِم النائبات والنواب بحضور جميع الجلسات، ونفس الأمر يسري على أشغال اللجان الدائمة التي يعتبر حضور أشغالها ملزم بموجب المادة 137 التي تضمنت مقتضيات صريحة ألزمت أعضاء اللجان الدائمة على حضور اجتماعاتها والمشاركة في أشغالها والمواظبة على حضور اجتماعات اللجان الدائمة التي هم أعضاء فيها بشكل منتظم.
وهذه الإشكالية لم يتم تغييبها أثناء إعداد مدونة الأخلاقيات البرلمانية التي أكدت من خلال المادة 395 من نفس النظام الداخلي السالف ذكره أن أعضاء المجلس ملزمون بحضور اجتماعات اللجان الدائمة، والجلسات العمومية وأن غيابهم عن هذه الاجتماعات والجلسات يجب أن يكون بعذر مقبول، وفي حالة ثبت تغيب عضو بدون عذر مقبول، يقوم الرئيس بتوجيه تنبيه كتابي للعضو المتغيب، وفي حالة ما ثبت تغيبه مرة ثانية بدون عذر عن جلسة عمومية في نفس الدورة، يوجه إليه الرئيس تنبيها كتابيا ثانيا ويأمر بتلاوة اسمه بمناسبة افتتاح الجلسة العامة الموالية، وفي حالة ثبوت تغيبه بدون عذر للمرة الثالثة في نفس الدورة، يقتطع من التعويضات الشهرية الممنوحة له مبلغ مالي بحسب عدد الأيام التي وقع خلالها التغيب بدون مبرر أو عذر مقبول، وذلك طبقا لمقتضيات النظام الداخلي للمجلس.
لكن بالرغم من كل التدابير الوقائية الواردة في المادتين السابقتين (137 و166) وفي الجزء الحادي عشر من مدونة الأخلاقيات البرلمانية خاصة تلاوة اسم النائب الذي ثبت تغيبه للمرة الثانية بدون عذر عن جلسة عمومية في نفس الدورة، إلا أنها تتم مقاومتها والتحايل عليها بمجموعة من المسوغات من لدن النواب البرلمانيين الذين هم أنفسهم من قاموا بوضع هذه المقتضيات في النظام الداخلي لمجلس النواب وأقروه بالتصويت في جلسة عمومية بتاريخ 16 يوليو 2024، وهذا أمر غير مفهوم وغريب، بل يدعو للدهشة والاستغراب، لماذا؟ لأن هذا التحايل جعل مقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب ومضامين مدونة الأخلاقيات البرلمانية الواردة فيه كما يقال "كطلق ناري في الهواء أو كضربة عصا في الماء" غير ناجعة وغير فعالة من أجل تطويق ومحاصرة غياب النواب عن جلسات البرلمان باعتباره فضاء عموميا ومكانا للنقاش العمومي انطلاقا من وظيفة التمثيل، وهذه الآفة تطال جميع النواب بمختلف تشكيلاتهم السياسية وصاحبت كل الولايات التشريعية التي مر بها البرلمان منذ أول ولاية تشريعية ما بين (1963- 1965)، بيد أن حدتها ازدادت في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للانتباه بالرغم من كل التدابير الرامية لتطويقها والحد من تفاقمها داخل أهم مؤسسة دستورية في النظام السياسي.
إن خطورة هذه الإشكالية اللاأخلاقية تكمن في التأثير الذي قد تحدثه ظاهرة غياب النواب على سير أعمال المؤسسة التشريعية التي يفترض فيها صيانة الحقوق والحريات الأساسية وحماية الاختيار الديمقراطي من تغول السلطة التنفيذية وكل محاولة منها للاستفراد بالوظيفة التشريعية التي تعتبر دستوريا من الاختصاصات الحصرية للقانون بموجب الفصل 70 من الدستور، الذي ينص على أنه يمارس البرلمان السلطة التشريعية، ويصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية، لكن على ما يبدو أن نواب الأمة أصبحوا يجنحون بتصرفاتهم هذه إلى التنازل عن وظيفتي التشريع والتصويت على القوانين كحق دستوري لفائدة السلطة التنفيذية التي تهيمن أصلا على وظيفة التشريع على حساب برلمان ولد أصلا مكبلا ومثقلا بتقنيات العقلنة البرلمانية، وهذه الاكراهات الموضوعية أضيفت إليها اكراهات ذاتية تتمثل في عدم الالتزام المؤسساتي والأخلاقي داخل قبة البرلمان، مما يجعل عدد أعضاء الأغلبية والمعارضة غير قار وغير ثابت الأمر الذي يفتح الباب أمام كل السيناريوهات والاحتمالات، سيما حينما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية للمواطنين، ويمتد هذا التأثير العكسي ليطال عمل اللجان النيابية الدائمة لأن تركيبتها تتحدد على أساس التمثيل النسبي للفرق النيابية في مجلس النواب.
عموما، يمكن القول إن ظاهرة الغياب عن الجلسات العمومية للبرلمان من شأنها أن تفقد النائب البرلماني مصداقيته وشرعيته الانتخابية ومعها يفقد المواطن الثقة في العمل البرلماني برمته وهو ما يزيد من تفاقم ظاهرة أو إشكالية أخرى لا تقل خطورة بدورها وهي إشكالية العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية بشكل عام وفي الانتخابات بشكل أخص، والغريب في الأمر هو أن ظاهرة الغياب تكون بمناسبة تمرير الحكومة لبعض النصوص القانونية التي لها صلة وارتباط كبيرين بالحقوق والحريات العامة من قبيل: مشروع قانون المسطرة الجنائية، مشروع القانون التنظيمي للإضراب، مشروع القانون المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة وغيرها من النصوص التي تمت المصادقة عليها في ظل غياب كبير في صفوف نواب وممثلي الأمة الذين يفترض فيهم الدفاع عن مصالح المواطنين واعطاء شرعية إضافية للنصوص القانونية من خلال مناقشتها وادخال التعديلات الضرورية عليها ضمانا للجودة التشريعية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، تجعل هذه المعضلة السياسية مسؤولية الأحزاب السياسية عن اختيار مرشحيها للانتخابات التشريعية على المحك سيما في الجانب المتمثل في مدى قدرة هذه الأحزاب على تدبير مسألة منح التزكيات للاستحقاقات التشريعية بموضوعية تؤطرها معايير الكفاءة والاستحقاق والالتزام الحزبي، ذلك لأن ظاهرة التغيب عن الجلسات العمومية وعن أشغال اللجان الدائمة تشكل إخلالا واضحا بالالتزامات السياسية والأخلاقية التي تجمع النائب بالكتلة الناخبة أو الدائرة الانتخابية التي يمثلها.
فالانتساب لحزب معين يعني من الناحية المبدئية بأن أطره ملتزمة ومقتنعة بالدفاع عن تصوراته من داخل المؤسسة التشريعية وتتعهد بنقل مطالب المواطنين للوزراء، لكن على المستوى العملي يلاحظ بأن الأحزاب المغربية قلما توفرت على هذا النوع من الأطر الحزبية المخلصة لوعودها الانتخابية والمتشبثة بروح المسؤولية السياسية من داخل المؤسسات الدستورية المنتخبة، إذ يمكن القول بأن الانتماء الحزبي في التجربة المغربية يبقى محكوما بمصالح برغماتية أكثر منها الدفاع عن مصالح المواطنين، لأن أغلب الأطر الحزبية غير متشبعة بمبادئ الالتزام السياسي تجاه الكتلة الناخبة التي تمنحها أصواتها لتجدهم بعد أن يصبحوا نوابا برلمانيين ضاربين عرض الحائط بالتعاقد السياسي الذي يجمعهم بالمواطنين والناخبين. وبالتالي، فالمشكل الخطير في ظاهرة الغياب يكمن في كونها تعبر عن عدم الالتزام الحزبي الذي هو من متطلبات العمل السياسي وهذا من شأنه أن يسهم في فقدان الثقة في العمل البرلماني، بالشكل الذي يجعل المؤسسة التشريعية بعيدة عن ممارسة وظيفة التمثيل السياسي ولا يسمح لها بأن تُكَوِّنَ رصيدا رقابيا وتشريعيا يساعدها في خلق سوابق تُقوِّي من مشروعيتها وشرعيتها الانتخابية، إذ كيف لبرلمان يعاني من هشاشة الالتزام الحزبي أن يساهم في خلق التوازن مع السلطة التنفيذية سواء عبر اقتراح القوانين أو تعديلها أو من خلال مراقبة العمل الحكومي والسياسات العمومية؟
ختاما يمكن القول، إن ظاهرة غياب النواب البرلمانيين عن الجلسات العمومية وعن أشغال اللجان الدائمة يجعل الحكومة تتفرد بتمرير كل مشاريع القوانين التي تتم بمبادرة منها في أجواء مريحة وبسرعة خيالية، لأن غالبية النخبة البرلمان لا يهمها سوى الظهور لدى قاعدتها الانتخابية بشكل موسمي وفي مناسبات محددة بعينها، حيث نرى أن أغلبها حريص على حضور جلسة الأسئلة البرلمانية التي تخصص كل أسبوع لأعضاء مجلسي البرلمان؛ طبقا للفصل 100 من الدستور؛ لإثارة مواضيع معينة (غياب الوزراء، عدم تفاعل الحكومة مع مقترحات القوانين ...)، أو حضور الجلسة السنوية المخصصة للبرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها طبقا للفصل 101 من الدستور، حيث يفضل العديد من النواب إرضاء الرأي العام والظهور بمظهر المدافع عن مصالحه، ويظهر ذلك مثلا من خلال العدد الإجمالي للأسئلة الكتابية التي تم طرحها برسم السنة التشريعية الثالثة (2023 - 2024) من الولاية التشريعية الحادية عشرة (2021 - 2026)، الذي بلغ 6778 سؤالا كتابيا موزعة على 4977 لمجلس النواب و1801 لمجلس المستشارين تهم قطاعات اجتماعية من قبيل: وزارة التربية الوطنية 909 سؤالا، وزارة الداخلية 658 سؤالا وزارة الصحة 612 سؤالا، وزارة الفلاحة 548 سؤالا ووزارة التجهيز والماء 533 سؤالا، لكن ما يلاحظ بخصوص الأسئلة الكتابية بالرغم من كثرتها إلا أنها لم تلامس بالفعل هموم وانتظارات المواطنين، بل كانت تعبر عن صراع خفي بين الأغلبية والمعارضة، بينما على المستوى التشريعي لوحظ فتور وعدم جاهزية النواب البرلمانيين للقيام بصلاحيتهم الدستورية والتشريعية التي لم تتعد سوى 08 مقترحات قوانين تمت المصادقة عليها مقابل 29 مشروع قانون.
عبد الغني السرار، أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بالجديدة