في مسار الكفاح الوطني والتقدمي الذي شهده المغرب في منتصف القرن العشرين، يبرز اسم المهدي بنبركة كأحد أبرز المفكرين والسياسيين الذين جمعوا بين العمل السياسي والنضال الثقافي. بحث لم يكن اهتمامه بالتربية أمراً ثانوياً، بل كان جزءاً من مشروع تحرري شامل. فقد اعتبر أن التربية الشعبية هي المفتاح لبناء مجتمع واعٍ، منظم، وقادر على التغيير.
من هنا، يمكن القول إن مشروع المهدي بنبركة السياسي لم يكن منفصلاً عن مشروع تربوي جذري، بل يأتي في سياق عالمي من التجارب المتنوعة في التربية الشعبية خصوصا بعد احتكاكه بالمخيمات المنظمة من طرف سلطات الحماية الفرنسية بداية الأربعينيات.
1- رواد التربية الشعبية في العالم
قبل الحديث عن رؤية بنبركة، من المفيد أن نذكر بعض رواد التربية الشعبية الذين ساهموا في تأسيس هذا المجال ونقلوا مفاهيمه إلى العالمية:
- باولو فريري (Paulo Freire) من البرازيل، مؤلف كتاب "التربية المقهورة" الذي يرى أن التعليم يجب أن يكون وسيلة لتحرير الشعوب من الظلم والاضطهاد.
- أنطونيو جرامشي (Antonio Gramsci) الإيطالي، الذي وضع مفهوم "الهيمنة الثقافية" وأكد على أهمية التربية في مقاومة السيطرة الفكرية.
- جون ديوي (John Dewey) الأمريكي، الذي ربط التربية بالديمقراطية والتجربة العملية.
تأتي رؤية المهدي بنبركة في هذا السياق كامتداد لهذه التجارب، لكنها تتسم بخصوصيات محلية ترتبط بواقع المغرب العربي ونضاله التحرري.
2- التربية الشعبية كوسيلة للتحرر لا كأداة للتلقين.
كان بنبركة من الأوائل الذين دعوا إلى تجاوز النموذج النخبوي والتلقيني في التعليم، معتبراً أن المعرفة لا يجب أن تُحتكر من طرف الدولة أو النخبة، بل تُنتج جماعياً في صلب المجتمع.
في هذا السياق، نستحضر من أفكاره مثل بسيط ومعبر: "لا تُشعل المصباح مكان الناس، بل عَلِّمهم كيف يصنعونه."
وهذا المثل أقرب إلى مقولة شهيرة منسوبة إلى الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس : لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد."
وهذا المثل أقرب إلى مقولة شهيرة منسوبة إلى الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس : لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد."
إن المصباح في هذا المثل يرمز إلى الوعي، وإشعاله لا يكون بتقديم أجوبة جاهزة، بل بتمكين الأفراد من فهم واقعهم وتحليله، ومن ثم تغييره.
3- التربية الشعبية والمجتمع
آمن المهدي بنبركة بأن التربية لا يجب أن تبقى حبيسة الفصول الدراسية، بل يجب أن تنزل إلى الحقول، المصانع، الأحياء الشعبية، والساحات العمومية...
كان يرى أن التعليم يصبح فعالاً عندما يُربط بالتجربة اليومية كالمخيم نموذجا ، وعندما يُدمج الفن، والمسرح، والحكاية الشعبية والحوارات التفاعلية في العملية التربوية، بهدف إشراك الجميع في إنتاج المعرفة.
هذا التوجه يجعل من التربية الشعبية فعلاً نضالياً لا نشاطاً محايداً.
4- الأفق السياسي للتربية: وضوح الإيديولوجيا وإشراك الجماهير.
لم تكن نظرة بنبركة للتربية محايدة أو تقنية، بل كانت ذات أفق سياسي واضح، حيث كان يعتبر أن التغيير الحقيقي لا يحدث إلا حين يتحول الوعي الشعبي إلى قوة تنظيمية ومطلبية.
وقد لخص بنبركة هذه الرؤية النقدية في واحدة من أقوى عباراته في وثيقة الاختيار الثوري
"أننا في الماضي قد انزلقنا نحو ثلاثة أخطاء رئيسية سوف تكون قاتلة لا محالة، إن لم نتداركها في الظروف الراهنة:
الخطأ الأول: يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها.
الخطأ الثاني: يتعلق بالإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معاركنا، بمعزل عن مشاركة الجماهير الشعبية.
الخطأ الثالث: نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا."
الخطأ الأول: يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها.
الخطأ الثاني: يتعلق بالإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معاركنا، بمعزل عن مشاركة الجماهير الشعبية.
الخطأ الثالث: نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا."
هذه القولة تختصر ثلاثة شروط مركزية في مشروع التربية الشعبية:
- رفض الحلول الترقيعية
- إشراك الجماهير في الفعل التربوي لا الاكتفاء بالتوجيه من فوق.
- ضرورة الوضوح الإيديولوجي الذي يؤطر أي مشروع تربوي تغييري.
5 - الجمعيات المغربية التاريخية الرائدة في التربية الشعبية: حركة الطفولة الشعبية و l’AMEJ نموذجا.
بعد استقلال المغرب مباشرة، تأسست كل من حركة الطفولة الشعبية والجمعية المغربية لتربية الشبيبة بحيث يعتبران من أبرز الجمعيات المغربية الذين تبنون و جسدن فكر التربية الشعبية على أرض الواقع، خصوصاً في مجال الطفولة والشباب داخل المخيمات والفضاءات التربوية.
سلاح هذه الجمعيات التشبع بالتطوع والسعي إلى المساهمة في تطور الشعب والرفع من مستواه، وكذلك الانفتاح على النظريات التربوية الي تسمح للجميع أن يختلف ويتطور ويبدع فعلا تربويا يتماشى مع انتظارات وتطلعات الشباب والطفولة.
نعم هي منظمات تعتمد على تربية شعبية ماهيتها التفاعل والتحليل للوصول معا إلى الحقيقة، فعلها التربوي لا يعترف بالتراتبية اذ لا فرق بين من يقرر ومن ينفذ ومن ينظر بقدر ما هي تربية تسمح لكل عضو أن يجد له مكانا داخل دائرة قطرها يكبر ويصغر حسب السياقات والأحداث.
تعمل هذه الجمعيات على تطوير برامج وأنشطة تربوية تشاركية تهدف إلى تمكين الأطفال والشباب من التعبير عن أنفسهم، واكتساب مهارات نقدية واجتماعية، وتنمية حس المواطنة والانتماء، بما يتماشى مع رؤية المهدي بنبركة في بناء وعي شعبي منظم وفعّال.
من هذا المنطلق، يبدو من الضروري أن تقوم وزارة الشباب والثقافة والتواصل بدعم هذه الجمعيات وتوفير كل الإمكانيات اللازمة لتوسيع مشاريعها التربوية وتنشيطها، باعتبارها شريكاً استراتيجياً تاريخيا وجب تقويته لما راكم من تجارب ميدانية تجعله قادرا على تأهيل الأجيال الصاعدة وإعدادها لتحمل مسؤولياتها في بناء المستقبل.
وفي نفس الوقت فالمنظمات التربوية اليوم مدعوة للتشبث وتطوير ممارساتها المتشبعة بمنطلقات وأدبيات التربية الشعبية التي أسس لها الرواد وفي طليعتهم المهدي بنبركة رغم التحولات بين الامس واليوم. بتعبير آخر وزارة الشباب والثقافة والتواصل مدعوة إلى الاستثمار في التربية الشعبية باعتبارها رهانا واختيارات استراتيجيا مستقبلا.
في الاخير نتساءل هل يحتاج مستقبل المغرب إلى التربية الشعبية؟
إن رؤية المهدي بنبركة للتربية الشعبية تظل إلى اليوم مرجعاً حياً لكل من يسعى إلى تربية تحررية، نقدية، ومنخرطة في قضايا المجتمع.
لقد علمنا أن المعرفة التي لا تقود إلى التغيير ليست إلا استنساخاً للهيمنة، وأن التربية الحقيقية لا تُعطى، بل تُبنى مع الشعب ومن داخله.
كما لا ننسى حمولة قولته نحن نبني الشباب والشباب يبني الوطن التي تتداول من جيل إلى جيل داخل المخيمات والاوراش.
كما لا ننسى حمولة قولته نحن نبني الشباب والشباب يبني الوطن التي تتداول من جيل إلى جيل داخل المخيمات والاوراش.
وفي ظل التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب، وخصوصاً الإقبال على تنظيم تظاهرات كبرى كـكأس العالم 2030، وما يصاحب ذلك من رهان على الصورة، الثقافة، والشباب، يطرح سؤال عميق نفسه:
هل يمكن فعلاً بناء مغرب المستقبل دون تربية شعبية تُحرر العقول وتُعيد الثقة للمواطن في قدرته على التغيير والمساهمة في التنمية؟