في صمت الأقسام الصغيرة، حيث تنمو الحروف الأولى على شفاه الأطفال، وتتشكل أولى ملامح الوطن في نظرات بريئة، هناك نساء ورجال يشبهون الوطن كثيراً: صامدون، مجتهدون، ومنسيّون. إنهم مربيات ومربو التعليم الأولي في المغرب… أول من يستقبل الطفل في حضن المدرسة، وآخر من يُدرج اسمه في دفاتر الاعتراف.
هؤلاء الجنود الظل، الذين يحملون على أكتافهم أحلام الطفولة، يُمارسون أسمى الأدوار التربوية في ظروف لا تليق حتى بمؤقت عابر في الإدارة. إنهم يصنعون البدايات، ويزرعون القيم، ويُعلّمون الأناشيد الأولى للحياة، لكنهم يعيشون خارج نداء الوطن، في هامش النظام، في منطقة رمادية بين الأمل والخذلان.
تحت سقف الهشاشة
كيف يمكن أن نفهم أن مربية تقضي يومها تشرح الحروف وترسم البسمات، ثم تعود إلى بيتها براتب قد لا يضمن حتى الحد الأدنى من الكرامة؟
هل من الإنصاف أن نضع على عاتق هؤلاء مهام التربية، التأطير، التواصل مع الأسر، بناء الذاكرة الجماعية للأطفال، ثم لا نمنحهم حتى عقداً قانونياً يضمن استقرارهم؟
هل من الإنصاف أن نضع على عاتق هؤلاء مهام التربية، التأطير، التواصل مع الأسر، بناء الذاكرة الجماعية للأطفال، ثم لا نمنحهم حتى عقداً قانونياً يضمن استقرارهم؟
الواقع الحالي مرير: أجور زهيدة، غياب تأمين صحي حقيقي، هشاشة اجتماعية، وتكوين غير ممنهج. الأسوأ من ذلك، أن أغلبهم يشتغلون عبر وسطاء جمعويين أو شركات تدبير لا تربطهم أية مسؤولية حقيقية بوزارة التربية الوطنية، رغم أن المربي يشتغل في فضاء مدرسي وتحت إشراف الوزارة نفسها.
حين يصبح الحب مهنة قاسية
نعم، الكثير من هؤلاء المربيات والمربين لا يزالون يؤمنون برسالة التعليم الأولي، ويُقدّمون دروساً في الإخلاص والتضحية. لكن، هل يكفي الحب ليصمد المرء أمام متطلبات الكراء، والمصاريف، وتربية أبنائه؟
نحن في نقابتنا لا نملك ترف الصمت. لقد استمعنا، دافعنا، ناضلنا، وسنظل نناضل حتى يصبح لمربي التعليم الأولي مكانٌ لائق في خريطة الموارد البشرية للوزارة، وحتى يصبح الحديث عن "جودة التعليم الأولي" مقترناً بجودة حياة من يقدمونه.
نحن في نقابتنا لا نملك ترف الصمت. لقد استمعنا، دافعنا، ناضلنا، وسنظل نناضل حتى يصبح لمربي التعليم الأولي مكانٌ لائق في خريطة الموارد البشرية للوزارة، وحتى يصبح الحديث عن "جودة التعليم الأولي" مقترناً بجودة حياة من يقدمونه.
آفاق مغشوشة أم أملٌ قابل للإنبات؟
الوزارة تتحدث عن برنامج وطني لتعميم وتجويد التعليم الأولي، وذاك جميل في ظاهره. لكنها تغفل، أو تتغافل، عن الطرف الأهم في المعادلة: الإنسان. لا يمكن أن نُراهن على الجودة في بيئة عنوانها الاستغلال، ولا يمكن للنهضة التربوية أن تُبنى على أكتاف مُنهكة.
نطالب بميثاق وطني واضح:
إدماج مربيات ومربي التعليم الأولي في نظام أساسي يضمن حقوقهم كاملة.
وضع سلم أجور منصف يُقابل حجم العمل والرسالة التربوية.
إطلاق برنامج وطني للتكوين والتأطير المستمر.
إقرار تعويضات عن المهام المرتبطة بالتربية المبكرة.
إشراك ممثلي الفئة في كل قرارات الإصلاح.
من يربي المربي؟
لا نحتاج إلى أن نذكر وزارة التربية أن "التعليم الأولي أساس الإصلاح". هي تقوله دائماً في شعاراتها. ما نطلبه فقط، هو أن يُطابق القول الفعل، وأن تُترجم النوايا إلى قرارات. أن يشعر المربي بأنه شريك لا خادم، وأن تنظر إليه الدولة بعين الاعتراف لا بعين الإهمال.
نحن لسنا فقط فئة تطالب بحقوقها، نحن صوت الطفولة التي لن تتكلم… ولسنا فقط مربين، نحن بناة جيل، وجراحون في الذاكرة، وحرّاس المعنى التربوي قبل أن تكتب المناهج.
فمن يصغي لوجع المربي؟ ومن يُربّي المربّي؟