Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد اللطيف رويان: المغرب في صحرائه... والصحراء في مغربها

عبد اللطيف رويان: المغرب في صحرائه... والصحراء في مغربها

من العسير أن تُروى حكاية المغرب دون أن تتهادى الصحراء في خلفية المشهد، كظلٍّ من الضوء، أو كصدى بعيدٍ للهوية يتردّد في الذاكرة الوطنية منذ الأزل. فالقضية ليست مجرّد تضاريس تُرسَم على خريطةٍ سياسية باردة، بل هي سيرةُ انتماءٍ عميقة تشكّلت من تفاعل الذاكرة والوجدان، ونُسجت خيوطها من رمالٍ صبورةٍ وقلوبٍ مؤمنةٍ بأن الأرض ليست ملكًا للحدود، بل ملكٌ للتاريخ والوعي.

 

منذ أن خطّت الجغرافيا المغربية ملامحها الأولى، لم تكن الصحراء هامشًا يُطوى في أطراف الخريطة، بل كانت قلبًا نابضًا في رحلة الكيان المغربي نحو ذاته. فالعلاقة بين المغرب وصحرائه لم تُبنَ على مقاييس السياسة وحدها، بل على نبض الوجدان ودفء الذاكرة؛ إذ لم تكن الصحراء أرضًا أُلحقت بالجسد الوطني، بل ذاكرةً عادت إلى موطنها الأصلي بعد طول اغتراب. كانت معبرًا للروح قبل أن تكون معبرًا للقوافل، ومَسْلكًا للمعنى قبل أن تكون ممرًّا للبضائع. هناك، حيث يلتقي الرمل بالرمز، والشمال بالجنوب، تتراءى فاس وتنبكتو كضفتين لنهرٍ من القيم، تسقيه الزوايا بالعلم، وتباركه الرحلة المستمرة بين العرف والدين، بين الأرض والسماء والمقدّس. ومن طنجة إلى لكويرة، يمتد خيطٌ خفيٌّ من الولاء والوفاء، توثّقه عهود البيعة، وتُجدّده القوافل، ويُباركه الدرب الطويل الممتد من وحدة الدم إلى وحدة المصير.

 

واليوم، وقد تهاوت جدران الخطاب الأحادي وتبدّدت أوهام الحقيقة الواحدة، غدت الصحراء مختبرًا اجتماعيًا وسياسيًا بامتياز، تتقاطع فيه الأسئلة أكثر مما تُطرح فيه الأجوبة. فهي ليست مجرّد مجالٍ للنزاع أو ساحةٍ للتفاوض، بل مرآةٌ تعكس كيف تُعيد الأمم كتابة شرعيتها حين تتغيّر الأزمنة وتتشظّى المعاني. في رمالها تُختبر فكرة الدولة، وفي فضائها الرحب تُصاغ أسئلة المواطنة والانتماء: كيف تُدار الوحدة في حضرة التعدّد؟ وكيف يتحوّل التراب من حدودٍ ترسمها الخرائط إلى معنى تسكنه الذاكرة؟ وكيف يصبح المكان مشروعًا للهوية لا مجرّد إطارٍ لها؟ في هذا الأفق، تتجلّى الوحدة الترابية في أبهى صورها: ممارسة رمزية لا للدفاع عن الأرض فقط، بل لحراسة الذاكرة الجماعية من التآكل والنسيان. فالدفاع عن الصحراء ليس ردًّا على الآخر، بل استعادةٌ للذات في أعمق مستوياتها؛ هو فعل وجودٍ قبل أن يكون فعل سيادة، وشهادة على أن الأوطان تُبنى أولًا في الوعي، ثم تُرسم على الرمل.

 

قد أدرك المغرب، بعمق التاريخ وبصيرة ملك، أن الحضور في الصحراء لا يُقاس بوقع الأقدام ولا بعدّ الجيوش، بل بما يُزرع من أملٍ في رمالها، وما يُبنى من معنى في إنسانها. فالقوة الحقيقية لا تكمن في رسم الحدود، بل في توسيع أفق الانتماء، وفي تحويل المجال من ساحةٍ للصراع إلى وعدٍ بالتنمية والكرامة. من هنا، اختار المغرب أن يقلب معادلة القوة إلى معادلة البناء، فآثر التنمية المستدامة على الصراع العقيم، وفضّل الاستثمار المنتج على الخطابة الجوفاء، وراهن على الاندماج الخلّاق بدل العزلة العقيمة. فالموانئ التي تشقّ سكون الرمال في الداخلة، والطرق التي تعانق الأفق في العيون، ليست مجرّد بنى تحتية من إسمنت وحديد، بل نصوصٌ جديدة في سجل الوطن، تُكتب بلغة العمل وتُوقّع باسم الأمل. إنها ليست مشاريع تقنية فحسب، بل رسائل رمزية عميقة تقول للعالم إن الصحراء لم تعد حدًّا للمغرب، بل غدت أفقه المفتوح، وإن الجغرافيا حين تمتزج بالإرادة، تتحوّل من ترابٍ يُرسم على الورق إلى معنى يُؤسَّس في الوجدان، ومن فضاءٍ جغرافي إلى وعدٍ حضاري. ومن هنا يُستعاد المعنى العميق للرؤية الملكية التي اختزلت فلسفة وطنٍ بأكمله في عبارةٍ واحدة، تنطق بالثبات والوصل معًا:" المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها."

 

غير أن هذا التحول لا يُقرأ فقط بلغة الدبلوماسية، بل بلغة الاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا الوطنية. فالصحراء، بما تحمله من تنوعٍ ثقافيٍّ وقَبَليٍّ وروحيٍّ، تُلزم الفكر المغربي بإعادة تعريف الهوية الوطنية لا بوصفها قالبًا جاهزًا، بل كنسيجٍ متجددٍ من الانتماءات المتجاورة. فالمغرب الذي يحتضن تعدد روافده — الأمازيغية والعربية والحسانية والإفريقية — يجد في صحرائه مرآةً تردّ له صورته الكاملة، وتمنحه شرعية رمزية تمتد من الذاكرة إلى المستقبل. ومن هذا المنظور، تغدو الصحراء لحظة تأسيس ثانية للوطن؛ لحظة تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين المجال والذاكرة، بين الأمن والمواطنة. فكل خطوةٍ يخطوها المغرب في رماله الجنوبية هي توغّلٌ في ذاته، وكل مشروعٍ يُقام في صحرائه هو كتابةٌ جديدة في سفر الوطن. إنها جدلية الانتماء التي تصنع من الرمل معنى، ومن المكان هوية، ومن الصحراء قدرًا مشتركًا بين التاريخ والمستقبل.

 

وفي الختام، يمكن القول إن المغرب لم يكن يومًا يبحث عن صحرائه؛ لأن الصحراء كانت تسكنه منذ البدء... كانت فيه كما تسكن الروح جسدها: خفيةً، صامتةً، لكنها أصل الحياة ومعناها.

  د.عبد اللطيف رويان ، باحث في السوسيولوجيا