Saturday 17 May 2025
منوعات

عبد الواحد الفقيهي: عود الثقاب (لَوْقِيدْ).. شرارة الحياة الصغيرة

عبد الواحد الفقيهي: عود الثقاب (لَوْقِيدْ).. شرارة الحياة الصغيرة علب الثقاب لم تكن مجرد حاويات بل لوحات صغيرة تحمل رموزا متنوعة
في زاوية المطبخ، في جيب الفلاح، أو في صندوق الأدوات، كانت علبة عود الثقاب ترقد هادئة. وكأنها شيئا بسيطا بسيط القيمة. عود الثقاب لم يكن مجرد شيء.. بل كان يحمل في رأسه الصغير سرا كبيرا، سر النار، وسر النور. لم يكن مجرد عود صغير قابل للاشتعال، بل كان وعودا صغيرة بالدفء، وبالضوء، وبالحياة.
في المطبخ، كان عود الثقاب هو بداية كل طهي، يقف هناك بجانب الموقد، ينتظر أن يؤخذ برفق، فيشتعل، فتشتعل النار، وتبدأ الروائح في الصعود. كانت الأمهات يشعلن به نار الطاجين، أو يقدحن به فتيل المصباح، أو يوقظن الجمر الخامل في المجمار.
لكن عود الثقاب لم يكن حكرا على المطبخ. كان رفيق الفلاح في الحقل، وجنديا صغيرا في جيب الجندي، يحتفظ بقدرته على الإشعال حتى في الصقيع. وفي الليالي الباردة، كان يدفأ تحت الوسادة، أو في جيب المعطف، لأنه إن برد، فشل في أداء مهمته. وكان يخرج من الجيب بحذر، يشعل السيجارة، أو يوقد المصباح في العتمة.
علب الثقاب لم تكن مجرد حاويات، بل لوحات صغيرة تحمل رموزا متنوعة: الأسد الذي يرمز للقوة، النمر للجرأة، الفرس للحرية، الفهد للسرعة، والصقر للتحليق. كل علبة كانت تحمل وعدا صغيرا بالنار، ووعدا أكبر بقصة تروى. كنا نختار العلبة حسب الصورة، وكأننا نختار شخصية جديدة ترافقنا.
لكن طقوس استعماله كانت حكاية بحد ذاتها. كنا نراقب اللهب وهو يتراقص، ثم ننفخ فيه بحذر لإطفائه، عكس الجمر الذي ننفخ فيه ليشتعل. وفي المقاهي، كان المدخنون يطلبون من بعضهم: "شي وقيدة عافاك"، وكأن عود الثقاب لم يكن مجرد أداة، بل وسيلة للتواصل، ومفتاحا للنور.
ومع الزمن، جاءت الولاعة.. "البريكا"، جهاز صغير يشتعل بضغطة زر، يحتفظ بشرارته دون أن يتأثر بالرياح، يختبئ في الجيوب، ويضيء بلا انتظار. لكنها لم تحمل الدفء الرمزي لعود الثقاب، ولم تكن تتحدث بلغة البساطة.
لكن عود الثقاب لم يختفِ تماما. بقي في الذاكرة،  وفي درج المطبخ، وفي جيب المعطف القديم، وفي حكايات الأمهات. ظل رمزا لصبر النار، ولحكمة الاحتراق دون ضجيج، وللضوء الذي لا يأتي إلا بعد احتكاك و جرأة، وبعد مغامرة.
كان عود الثقاب يضيء، لكنه أيضا كان يترك أثرا، ذلك الأثر الأسود الصغير الذي يذكرنا بأن النار ليست مجرد ضوء بل ستهلك ببطء.