بمناسبة الذكرى 20 لإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة في سياق العدالة الانتقالية، أكد الملك محمد السادس في الرسالة الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الدولية المنعقدة بالبرلمان المغربي حول موضوع: "مسارات العدالة الانتقالية من أجل إصلاحات مستدامة"، بأن هذه التجربة الفريدة على المستويين الاقليمي والدولي تعتبر نموذجا ساهم في تطور العدالة الانتقالية كمحطة تاريخية هامة في المشهد الحقوقي الوطني. كما تسجل جميع مكونات المجتمع المغربي بإيجابية إقدام الملك محمد السادس مع الحركة الحقوقية على ترتيب ملف حقوقي يروم تحقيق مصالحة المغاربة مع التاريخ وحفظ الذاكرة الجماعية بالطي النهائي لملف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. ولتقريب القراء من تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية، أستضاف موقع " أنفاس بريس" الفقيه القانوني والعميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بمراكش، والذي يعتبر مرجعية قانونية في الموضوع من خلال كتابه " التجربة المغربية في حقوق الانسان.. الأصيل والمكتسب " المنشور عن المطبعة الوطنية بمراكش عام2022، وأجرى معه ها الحوار.
بداية، ما هو تقييمكم لمسار العدالة الانتقالية بالمغرب؟
شكلت المبادرة الملكية بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة في سياق العدالة الانتقالية بمرسوم ملكي بمقتضى الصلاحيات الدستورية التي يختص بها الملك محمد السادس بصفته حاميا لحقوق المواطنين وحرياتهم، وتنصيبها بتاريخ 7 يناير 2004 محطة بارزة في تاريخ المغرب الحديث، من خلال إعتراف الدولة المغربية رسميا بمسؤوليتها المباشرة في إرتكاب الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كخطوة جريئة غير مسبوقة في العالم العربي لمصالحة المغاربة مع التاريخ في سياق حفظ الذاكرة الجماعية.
فالعدالة الانتقالية هي آلية غير قضائية سلكتها عدة دول مثل الأرجنتين عام 1983و الشيلي عام 1990وجنوب افريقيا عام 1995 وأيضا المغرب عام 2004. والتجربة المغربية بالذات تهدف إلى دعم مسلسل الانتقال الديمقراطي ببلادنا وإثبات مدى جسامة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سياقاتها التاريخية وتلقي الإفادات والاطلاع على الأرشيفات وإستقاء المعلومات والمعطيات لفائدة الكشف عن الحقيقة، وإلقاء الضوء على ماضي الانتهاكات الجسيمة، كما ترمي إلى تحقيق المصالحة وحفظ الذاكرة الجماعية دون إثارة المسؤوليات الفردية.
ومن جانب ثان، فتجربة العدالة الانتقالية بالمغرب تمكنت من إقامة مصالحة وطنية بين الضحايا ومؤسسات الدولة، وإتخاذ إجراءات التعويض المادي والمعنوي لضحايا الإنتهاكات الجسيمة وتأهيلهم نفسيا واجتماعيا وجبر الضرر الجماعي، وحفظ الذاكرة الجماعية، وتقديم ضمانات تشريعية ومؤسساتية لطي ماضي الانتهاكات الجسيمة وعدم تكرار ما جرى.
ماهي المرجعية المعتمدة في القانون الدولي التي تؤسس لمسار العدالة الانتقالية بالمغرب؟
أصدرت لجنة حقوق الإنسان في الدورة 61 قرارا بتاريخ 18 فبراير 2005 يتضمن مجموعة من الإجراءات في إطار العدالة الانتقالية، والتي تتجلى في إحترام الدول لعدة مبادئ أساسية:
المبدأ 1: الحق غير القابل للتصرف في معرفة الحقيقة
لكل شعب حق غير قابل للتصرف في معرفة الحقيقة عن الأحداث الماضية المتعلقة بإرتكاب جرائم شنيعة وعن الظروف والأسباب التي أفضت، إلى ارتكاب هذه الجرائم والإنتهاكات الجسيمة أو المنهجية لحقوق الإنسان.
المبدأ 2: واجب عدم النسيان
إن معرفة الشعب لتاريخ إضطهاده هو جزء من تراثه، فيجب، بناء على ذلك، صيانة هذا التراث من خلال إتخاذ تدابير مناسبة لكي تقوم الدول بواجبها الكامل المتمثل في حفظ السجلات وغيرها من الأدلة المتعلقة بإنتهاكات حقوق الإنسان، وتستهدف مثل هذه التدابير حفظ الذاكرة الجماعية من النسيان.
المبدأ 3: حق الضحايا في المعرفة
يتمتع الضحايا وأسرهم، بحق غير قابل للتقادم في معرفة الحقيقة بخصوص الظروف التي إرتكبت فيها الإنتهاكات وكذلك مصير الضحية في حالة الوفاة أو الاختفاء.
المبدأ 3: حق الضحايا في جبر الضرر المادي والمعنوي
إن حق الضحايا في جبر الضرر المادي والمعنوي تحتمه معايير دولية ثابتة تضمنتها المبادئ الأساسية والخطوط التوجيهية المتعلقة بالحق في الانتصاف والجبر لضحايا انتهاكات حقوق الانسان، فتأهيل جبر الضرر في القانون الدولي، كما يدل على ذلك الأصل الاشتقاقي لكلمة جبر الأضرار هو إعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل الانتهاك وإقرار الحالة إلى شكلها الأول قبل إرتكاب الفعل الذي نتج عنه الضرر.
ويرى الخبير ديان أرنتلشر، أن إجراءات جبر الاضرار الجماعية تتجسد في ترضية الضحايا بشكل جماعي مثل إعتذار الدولة وتحويل مراكز الاعتقال إلى أمكنة التكريم الضحايا بإطلاق أسماء الضحايا أو المجموعات على شوارع وهيئات عمرانية وتحويل فضاءات الاعتقال السري إلى متاحف.
ما هي المهام الموكولة لهيئة الانصاف والمصالحة في سياق العدالة الانتقالية؟
لقد تحددت وظائف هيئة الإنصاف والمصالحة وفق نظامها الأساسي فيما يلي:
1- إجراء تقييم شامل لمسلسل تسوية ملف الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي منذ إنطلاقه؛
2- مواصلة البحث بشأن حالات الإختفاء القسري التي لم يعرف مصيرها وبذل جميع المجهودات للوصول إلى نتائج بصددها؛
3- العمل على إيجاد حلول لحالات ضحايا الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي التي يثبت للهيئة أنها آلت إلى الوفاة وذلك بتحديد أماكن دفنهم لتمكين أقاربهم من زيارتهم والترحم عليهم؛
4- مواصلة العمل الذي قامت به هيئة التحكيم المستقلة للتعويض المترتب عن الضررين المادي والمعنوي للضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للإختفاء القسري والإعتقال التعسفي إعتمادا على نفس الأساس التحكيمي وقواعد العدل والإنصاف للبث في الطلبات التي رفعت إليها بعد إنصرام أجل 31 دجنبر 1999؛ ولهذه الغاية تم فتح أجل جديد لتلقي باقي الطلبات ذات الصلة بالموضوع وذلك إبتداء من تاريخ الإعلان عن المصادقة الملكية السامية على هذه التوصية؛
5- العمل على جبر كل الأضرار التي لحقت بالأشخاص ضحايا الإختفاء القسري والإعتقال التعسفي، وذلك بتقديم مقترحات وتوصيات بشأن قضايا الإدماج الاجتماعي والتأهيل النفسي والصحي للضحايا الذين يستحقون ذلك، وإستكمال مسلسل حل المشاكل الإدارية والوظيفية والقانونية بشأن الحالات العالقة والنظر في الطلبات المتعلقة بنزع الممتلكات.
6- إعداد تقرير بمثابة وثيقة رسمية ل "هيئة الإنصاف والمصالحة" في أبريل 2005 يتضمن خلاصات الأبحاث المجراة وتحليلا للإنتهاكات ذات الصلة بالإختفاء القسري والإعتقال التعسفي، وعرضا للإنجازات التي تم تحقيقها في الملفات المرتبطة بهذه الإنتهاكات، والتوصيات والمقترحات الكفيلة بحفظ الذاكرة وضمان تكرار ما جرى ومحو آثار الانتهاكات وإسترجاع الثقة وتقويتها في حكم القانون وإحترام حقوق الإنسان.
7- تقوم الهيئة خلال أدائها لمهامها المحددة أعلاه، ببذل جميع المجهودات للكشف عن الوقائع التي لم يتم إستجلاؤها بعد، وإصلاح الأضرار ورد الإعتبار للضحايا وترسيخ المصالحة، ولهذه الغاية تعمل كافة السلطات العمومية والمؤسسات العامة على التعاون مع الهيئة وتمكينها من كل المعلومات والمعطيات الكفيلة بإنجاز مهامها.
من خلال قراءة هذه المهام، يبدو أن الصلاحيات المخولة لهيئة الإنصاف والمصالحة تتجلى في القيام بمهام البحث والتقصي والاقتراح بخصوص الانتهاكات الجسيمة المرتكبة ما بين 1956 ونهاية التسعينات، وتحرير تقرير رسمي لمجموعة الأبحاث والتحليلات والتقصي المنجزة من طرف الهيئة وتوصيات للإجراءات الواجب إتخاذها بشأن حفظ الذاكرة وعدم تكرار مآسي الماضي المؤلم لسنوات الجمر، لضمان الانتقال الديموقراطي والمصالحة مع التاريخ المغربي.
ما هي قراءتكم للدور البيداغوجي لجلسات الاستماع العمومية في المصالحة الوطنية؟
قامت هيئة الإنصاف والمصالحة في إطار الكشف عن الحقيقة وإنجاح مسلسل المصالحة بتمكين الضحايا أو عائلاتهم من الإدلاء بشهاداتهم في إطار جلسات عمومية قامت ببثها وسائل الإعلام المرئية، فهذه الشهادات الحية تجسد لحظة تاريخية للضحايا وعائلاتهم للتعبير بحرية وتلقائية على معاناتهم وتحديد دور مؤسسات الدولة في إرتكاب جرائم الإعتقال والإختفاء القسري قصد معرفة الحقيقة وتحديد مصير المختفين وأماكن دفن الأموات وتسليم الرفاة للدفن.
ومن جانب آخر، فالجلسات العمومية تمكنت من شيوع الحقائق المتعلقة بالماضي، وذيوع تفاصيلها لدى المجتمع، وأيضا إعادة الإعتبار للضحايا أكثر مما هو إجراء لجمع الأدلة وهذا ما عبرت عنه بشكل صريح، الفقرة الثانية من الوثيقة المرجعية لجلسات الاستماع العمومية.
إن الهدف الأساسي من تنظيم جلسات الإستماع هو تكسير الحواجز النفسية، التي مورست في حق الضحايا ولتمكينهم من التعبير عن معاناتهم، فالدور البيداغوجي لجلسات الاستماع العمومية، بإعتبارها شكلا من أشكال سرد الحقيقة الصادرة من أفواه الضحايا، يكمن في كونها موجهة أساسا إلى المواطنين وكذلك المسؤولين، من أجل إيصال معاناة الضحايا، وتبيان فظاعة ما تعرضوا له في الماضي، إضافة إلى كونها منبر عمومي يعبر من خلاله الضحايا عما يمتلكوه من الحقيقة وهو ما يشكل عنصر ضروريا في مسلسل المصالحة وجبر الضرر الجماعي.
نظمت الهيئة بصفة موازية مع جلسات الاستماع العمومية، جلسات موضوعاتية، تنصب على مناقشة مواضيع وثيقة الصلة بالإنتهاكات، التي عرفتها المغرب، من زاوية أبعادها القانونية والتاريخية والسياسية، شارك فيها شهود وحقوقيون وفاعلون في مجال حقوق الإنسان.
كما قامت هيئة الانصاف والمصالحة بتنظيم جولات ميدانية عبر مجموع التراب الوطني، همت بالأساس المناطق الأكثر تضررا من آثار سنوات الانتهاكات الجسيمة، عبر تنظيم قوافل الحقيقة في إطار نهج سياسة القرب والتواصل مع الضحايا والانصات للتظلمات المقدمة من طرفهم وإستجلاء ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية.
وتجب الاشارة في الأخير، إلى أن هيئة الانصاف والمصالحة قامت بإصدار مقررات تحكيمية تقضي بتعويض الضحايا وذوي الحقوق مع التوصية بتوفير التغطية الصحية للضحايا والعائلات الذين لا يتوفرون عليها. وفي ذات الوقت قامت هيئة الانصاف والمصالحة بجبر الأضرار الجماعية تتجسد في ترضية الضحايا بشكل جماعي مثل تحويل مراكز الإعتقال إلى أمكنة لتكريم الضحايا.