عندما تدخل السوق التقليدي لمدينة مراكش، فأنت في حضرة مغارة علي بابا»..... كل شيء موجود والتجار على استعداد لاستقبالك والترحيب بك... في نهاية المطاف تجد نفسك وقد اشتريت أشياء تكتشف عند عودتك للبيت بأنك لست في حاجة إليها... لكن الأجواء تغري بالتبضع والتاجر المراكشي طيب ومبتسم وصاحب كلام جميل، يحدد الثمن بمائة ويبيع بخمسين.
البهجة
تذكرت، وأنا في هذه الأجواء زياراتي لما يصطلح عليه مشرقيا بالبازار.... زرت هذه الأسواق العتيقة في طهران واسطنبول في دمشق والقاهرة.. هذه الأسواق لها تاريخ وأدوار أثناء فترات الرخاء والشدة.... لكن سوق مراكش له طعم خاص، أو كهذا يُخيل إلي... في المدينة العتيقة تشعر أنك في قلب التاريخ، وأنه طيلة عدة قرون تقاطر على هذه الأزقة الضيقة مئات الآلاف في الصناع والحرفيين والتجار... عاشوا وأبدعوا وشاهدوا تعاقب الأسر الحاكمة وفترات حكم عادل وفترات حكم ظالم.... كل هذا جعل من مراكش أرض البهجة.... سكانها يعيشون على الكفاف والعفاف. وسط الازدحام والضوضاء آلاف السياج يتزاحمون ويكتشفون... لغات عديدة يتبادلها التجار مع الضيوف وضحكات ومساومات وحسن استقبال.
همس... وفاتورة
على بضع مئات الأمتار حجزت مكاناً لتناول طعام العشاء، كانت الحرارة مفرطة لذلك لم أفاجأ بمرتادي هذا المطعم وهم شبه عراة ... هذا المطعم لا يوجد له مثيل في العاصمة... أضواء خافتة موسيقى هادئة وديكور يجمع بين الإنارة والأناقة، وبشر من نوع خاص، لباسا ولغة وجمالاً....
استقبلتني بابتسامة وحشمة ذات العشرين، بلباس فضفاض يوحي بجسم نحيف وأخذتني وزوجتي إلى طاولة في الجانب الأيسر من المطعم. تصورت أن دخول هذا الملتقى يحتاج إلى «فیزا شینگن». الناس هنا لا يتكلمون بل يهمسون، لا يأكلون بل يتذوقون الصحون كبيرة وما تقدمه قليل ولكنه لذيذ... اخترت ما أعتقد أنه طعام جيد دون أن أعرف ماذا ستحمله المضيفة... ذلك أن لائحة المأكولات لفهمها لابد من بكالوريا زائد خمس سنوات إلى جانب معرفة دقيقة لعدة لغات.... والملاحظ أن مقابل كل اقتراح لا يوجد ثمنه مما يجعلك تنتظر النهاية لمعرفة كم عليك أن تدفعه....
الناس هنا لا يهتمون بالأثمنة المهم أن يستمتعون ويشربون ويتبادلون الهمس ويستعرضون ملابسهم وجمال أجسامهم. هم في عالم آخر بعيد عن السوق التقليدي وإنفاق بعض الدريهمات... في تلك الأضواء الخافتة لم أتعرف عما أكلته ولكني تعرفت على أرقام الفاتورة ... حفظكم الله من مثيلاتها.....
الطنجية المراكشية
في جامع الفناء اعتدت تناول عصير ليمون وبعد الجولة في المدينة أتناول «زلافة بوبوش»، وأضيف أخرى... ذلك المساء قررت العشاء بالطنجية المراكشية.... منذ سنوات ورغم زياراتي المتعددة المدينة «سبعة رجال»، لم أتناول ما تحتضنه الطنجية... اخترت مطعما مطلا على جامع الفناء، وفي الطابق الأول طلبت ما استرجعته ذاكرتي.... هذا المطعم يطل على أغرب ساحة عمومية في العالم فيها حكواتيون وثعابين وتجار ومقاهي ومطاعم وبؤساء وفضوليون وباعة متجولون وسياح ومجاديب... مسرح بكل شخوصه يعيد نفس المسرحية منذ قرون.
في هذا المطعم وقعت الفاجعة منذ عشر سنوات.... هنا ضرب الإرهاب فحطم «أركانة»... وجاء جلالة الملك ليشاهد ويسأل ويطمئن ويعلن أن المطعم سيعاد بنائه وأن المغرب سينتصر على الإرهاب... كانت فاجعة مست بسمعة مراكش وأثرت على طموحاتها ... لكن عزيمة المغاربة انتصرت على الكراهية والتطرف....
جاءت الطنجية وأزال العامل غلافها من ورق سميك، وحمدل وبسمل وابتسم، وقدم لنا أكلة شهية......
في مراكش أشعر بأني مغربي في الأعماق.