وداعا أيقونة رقصة "الـﮜنبورة"
نزل الخبر الأليم كالصاعقة على قلوبنا جميعا نحن عشاق التبوريدة، حين تلقينا فاجعة فقدان رجل مَحَارِكْ فن وتراث التبوريدة، ـ بعد صراع مع مرض الْكِلِي ألزمه الفراش بعيدا عن لَمَّةْ "شجعان" الفروسية التقليدية ـ ودّعنا أيقونة محارك الفروسية التقليدية "أبَّا التّْهَامِي" الذي استطاع ببساطة الفلاح والكساب، وعلو كعب شخصية المبدع المتمرسة على صناعة الفرجة أن يربط علاقات اجتماعية وإنسانية طيبة عبر مسارات مجالات خرائط الوطن مع كل عَلَّامَةْ الْخَيْلْ وكتائب فرسانهم من الشمال والجنوب والشرق والغرب، فأحبه الجمهور العاشق لسنابك الخيل والبارود، وتفاعل مع رقصته التراثية دون شرط أو قيد.
رحيل رجل يعتبر جزءا من عُدَّةْ الخيل والفرسان
لقد كان الرجل سفيرا لتراثنا اللامادي متنقلا بين المواسم الأصيلة بمغربنا العميق والمهرجانات الوطنية ذات الصلة بالتراث والثقافة الشعبية، دون أن يتردد أيضا في زيارة أغلب بيوت "مْقَادِيمْ السَّرُوتْ" والتبرّك برائحة إسطبلات خيول التبوريدة، وتقاسم مع الجميع الطعام والماء على موائد الخيل والخير، فأضحى واحدا من مكونات عُدَّةْ الخيل والبارود، بل أن "أبَّا التّْهَامِي" قد تحول إلى علامة مغربية بارزة من علامات التراث اللامادي في علاقة بمكونات ومستلزمات تراث وفن التبوريدة.
حديث عن مختبر ثلاثية الماء والطين والنار بمعرض الفرس
أتذكر أنني خصصت ورقة تعريفية بفقيدنا "أبَّا التّْهَامِي" خلال فعاليات إحدى دورات معرض الفرس للجديدة أمام الجمهور الغفير، وحلّلت رقصته التراثية في علاقة بمختبر ثلاثية الماء والطين والنار، فكان رحمه الله مثل الفنان التشكيلي الذي يصيغ حروف ولادة الكون وتجديد الحياة بألوان قوس قزح البهية، وهو يعمد الفرسان والخيول ببركة الماء والطين ونار مواسير مكاحل فرسان الوطن.
عْيُوطْ وَمْكَاحَلْ...الأثر الطيب في مسار شخصية الرجل
ومن المعلوم أننا كلجنة تنشيط عروض التبوريدة على المستوى الوطني، فقد عملنا بنكران الذات منذ سنوات خلت، من أجل تحقيق هدف توثيق شخصية صانع الفجرة "أبَّا التّْهَامِي" تلفزيونيا، حيث تحقق مسعانا من خلال الفيلم الوثائقي الناجح "عْيُوطْ وَمْكَاحَلْ" بموسم العونات بأرض دكالة، بعد أن وفرنا للرجل كل شروط الحضور والمشاركة والفرجة بتنسيق مع الفنان محمد عاطر والدكتور نور الدين الزوزي، ومحمد القاسمي وعبد ربه، فكانت المبادرة جد إيجابية، باعتبارها أثرا طيبا خلد اسم الفقيد.
آخر لقاء مع صانع الفرجة "أنبا التهامي"
بعد إجراءه لعملية جراحية كللت بالنجاح، كان لقائي الأخير مع الرجل على هامش إقصائيات مدينة الشماعية المؤدية لإقصائيات دار السلام برسم سنة 2025، حيث تم تكريمه، وقدمته كشخصية مؤثرة في عالم التبوريدة أمام الحضور، ورغم المرض، كانت الإبتسامة لا تفارق محياه، وكان يشعر بأنه وسط أهله وأحبابه ورفاقه الذين يتقاسم معهم عشق الخيل والبارود.
في البداية، هكذا تسللت "وْلَاعَةْ" الخيل والبارود لشغاف قلب "أبَّا التّْهَامِي"
عن "اَلْبَلْيَةْ" و "لَوْلَاعَةْ" بحب الخيل وامتهان رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" يقول أَبَّا التّْهَامِي في إحدى جلساتنا الخاصة في حضرة عشاق الخيل والبارود: "كُنْتْ مَازَالْ طِفْلْ صغير. مْشِيتْ مْعَ اَلْوَالِدْ لِلْمُوسَمْ...إِيوَا يَا سِيدِي عْلِيكْ خَرْجْ بَارُودْ مْكَاحَلْ سَرْبَةْ اَلْخَيْلْ مْسَاوْيِينْ مِيزَانْ. هُوَ يْـﯕُولْ لٍيَّا اَلْوَالِيدْ: نَوضْ السِّي التّهَامِي هَزْ هَادِيكْ اَلْـﯕَنْبُورَةْ وْهَرَّسْهَا بِمَاهَ ﯕُدَّامْ عَلَّامْ واَلْخَيْلْ. أُو كَانَتْ هَاذِيكْ هِيَّ اَلْمَرَّةْ الأُوْلَى الِّلي هَرَّسْتْ اَلْـﯕُلَّةْ ﯕُدَّامْ اَلْجَمْهُورْ"
السؤال الذي أنتصب أمامي بعد حكيه لبداية انخراطه في هذا الطقس الغرائبي، كيف يمكن أن نقرأ فسلفيا هذا الطقس الوجودي والإحتفالي، بعد أن تحول أَبَّا التّْهَامِي إلى شخصية أساسية تشهد على جودة طلقات "اَلْبَارُودْ" في علاقة مع حنكة ودربة ومراس "اَلْبَّارْدِيَّةْ" فرسان الوطن؟ وما هي أحاسيسه وكيف يعبر عنها أثناء قيامه برقصة "اَلْـﯕَنْبُورَةْ"" التي أبدع فيها ومارسها في وسط محارك التبوريدة عبر ربوع الوطن منذ سنوات؟
رقصة "الْـﯕَنْبُورَةْ" تعبير تراثي احتفاء بـ "الشّجعان" وْلِيدَاتْ الْوَطَنْ
إن مادة الطين (اَلْفَخَّارْ) في نظر أَبَّا التّْهَامِي اَلْعَبْدِي هي أصل الوجود وأصل الحياة، ولن تكتمل الفُرجة والفرحة في محرك اَلْخَيْلْ واَلْبَارُودْ إلا بالاحتفاء بالطّين (الفخار) لتتجدد الولادة، ويتجدد معها طقس الاحتفاء بـ "الشَّجْعَانْ وْلِيدَاتْ اَلْوَطَنْ".
إن الطقس اَلْفُرْجَوِي الذي أدّاه أَبَّا التّْهَامِي بدار السلام وبمعرض الفرس أمام جمهور وضيوف الأمير الشريف مولاي عبد الله طيلة أيام المنافسات الوطنية (جائزة الحسن الثاني بالرباط وجائزة الملك محمد السادس بالجديدة)، باعتزاز وفخر فوق خشبة مسرح الفرح أمام لَمَّةْ الجود والخير على إيقاع سنابك الخيل والبارود، وسحر موسيقى سمفونية زغاريد أمهاتنا وجداتنا وفاء لـ "الشَّجْعَانْ"، (هذا الطقس الفرجوي) يجدد به أَبَّا التّْهَامِي معادلة علاقة الإنسان بالتراب والماء في حضرة النار الملتهبة المتحررة من مواسير لَمْكَاحَلْ.
المبدع الفقيد "أبا التهامي" كان يؤدي بطريقته سنفونية "عْيُوطْ اَلْخَيْلْ" الموسومة بـ "اَلْبَارُودْ عْلَى ﯕْصَاصْ اَلْخَيْلْ". كيف لا وهو الذي كان يحلق بجناح السلامة، ويرقص فرحا وهو يغني للأمن والأمان: "مْشَاتْ اَلْخَيْلْ وُجَاتْ سَالْمَا. وُتْكَلَّمْ الْبَارُودْ فِي السّْمَا، وَلَايْنِّي عَلْفَةْ مْسَلْمَا".
استحضر هنا والآن، كنت في مرات عديدة أقتحم على أَبَّا التّْهَامِي خلوته بمختبره المتخصص في صناعة الفرجة والفرح، وكنت أستخلص من ملامح وجهه وتقاسيمه وتعابير حركاته "أن فلسفة اختياره لثلاثية ـ الماء والطين والنار ـ تعكس بما لا يدع مجالا للشك، هوية الفارس على صهوة الأدهم الثائر الذي يدكّ أرض الْمَحْرَكْ بحافره ويثير نقع الغبار". إنها فعلا فلسفة وجودية ترتكز على انصهار كيمياء ثلاثية الوجود (النار والماء والطين)، لترسم أفق حرية "هِبَةْ اَلرِّيحْ" وتحرر قوة وشجاعة الفرسان على متن صهوة الخيول.
طقس تعميد خيول وفرسان التبوريدة بماء "ﯕَنْبُورْةْ" الأمان
تتشكل لوحة رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" التي أبدعها أَبَّا التّْهَامِي أمام جمهور وفرسان وخيول الوطن سواء بدار السلام أو بمعرض الفرس، أو بمجموعة من المهرجانات والمواسم التراثية من كيمياء ثلاثية ـ الطين والماء والنار ـ (أصل الوجود)، باعتباره مزيج من خليط ساحر للألباب، يجمع في خلطة عجينة يديه بين رمزية الماء الطاهر (وجعلنا من الماء كل شيء حيا) الناصع البياض، على اعتبار أنه يضمن شرط إشاعة الأمن والأمان، واستمرار الحياة، وبتركيزه على سيلان الماء فوق رأسه المشتعلة شيبا، يمارس طقس "تَعْوِيدَةْ" يُعَمِّدُ بها نفسه وجسد الحصان والفارس في نفس الآن، ضد "العين" و "الحسد"، ولإبعاد شبح النحس والأرواح الشريرة عن المكان والزمان والإنسان والحيوان.
الحكم الذي نصبه جمهور التبوريدة
إن رسالة أَبَّا التّْهَامِي المشفرة التي يرسلها للمتلقي من خلال تكسيره "اَلْـﯕَنْبُورَةْ" ذات المنتوج الطّيني، هي تعبير عن شهادته الصادقة الأحاسيس (بصفته حَكَمْ نصَّبه جمهور التّْبَوْرِيدَةْ). هي تعبير عن جودة الطلقة (الْمَاصَّةْ) التي يرتضيها عشاقه من بني جلدته. ودليلنا في هذا أنه خلال إقصائيات دار السلام ورغم مدح أحد المعلقين لإحدى الطلقات في "رَاسْ اَلْمَحْرَكْ"، فقد انتقلت عدسة كاميرا المخرج صوب "أَبَّا التّْهَامِي" بسرعة لنقل طقس فرجة رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ"، لكن الرجل ظل جامدا بدون تفاعل ولا حركة مع تلك الطلقة التي تمت إعادتها بتقنية "اَلْفَارْ" فكان موقف أَبَّا التّْهَامِي مشرفا باعتباره حكما ناجحا.
في مختبره الفريد من نوعه، كان "أَبَّا التّْهَامِي" يعجن بيديه الكريمتين أروع أشكال الفرح تعبيرا بجسده الراقص طربا وانتشاء بتكسير "اَلْـﯕَنْبُورَةْ"، كما فعل مع الطلقات الموحدة الناجحة وما أكثرها، حيث ينخرط في جدبة طقسه الفرجوي بالحركة والتلويح وكأنه ينادي بصوته العبدي وخامته "اَلْعَيْطِيَّةْ" على صانع الفخار ويوصيه بإعادة الإنتاج وتدوير مادة تراب الطين لاستمرار تدفق الماء العذب والطاهر على رؤوسنا جميعا، في لحظة التهاب النار التي يسطع نورها من مواسير مكاحل التبوريدة بمحرك دار السلام ومعرض الفرس.
رقصة "الـْﯕَنْبُورَةْ" التي كان يؤديها أَبَّا التّْهَامِي رحمه الله، تشبه إلى حدّ كبير جَدْبَةْ فنان حين يأتيه الَحَالْ بمحراب مرسمه وهو متعبد في خلوته من أجل أن يبدع لوحاته الجميلة والمدهشة، لوحات عميقة لن يفلح في دعوة الرجل لممارسة طقسها إلا الْعَلَّامْ / لَمْقَدَّمْ الحاذق والمتمرس رفقة كتيبة فرسانه، الموفقة في الطلقة الموحدة التي تشرئب لها الأعناق وتقشعر لها الأبدان معلنة انطلاق الفرجة والفرحة على إيقاع ونغمات أغاني فن العيطة. كيف لا وهو عاشق صوت الشيخة خديجة مركوم العبدية... وتلكم حكاية أخرى.
على سبيل الختم: يستحق الفقيد "أبَّا التَّهَامِي" الذي ألهب محارك التبوريدة بالتفاعل الجميل مع تراثنا اللامادي، أن يخلد اسمه بتمثال منحوت من مادة البرونز، بملامح وتقاسيم وجهه البشوش وهو يحمل "الـْﮜَنْبُورَةْ"...تمثال يوضع في ساحة معرض الفرس بمدينة الجديدة كعربون وفاء لشخصية رجل أضحى جزء مهما من تراثنا بل أنه أصبح تراثا غير مادي.