في زمنٍ يتكالب فيه الجميع على الحديث عن التحول الرقمي، والنموذج التنموي الجديد، والديمقراطية التشاركية، والعدالة المجالية، يكاد يغيب سؤال بسيط وعميق في آنٍ واحد: من يملك زمام الماء؟ ومن يدبّره ضمن رؤية فلسفية تنموية تتجاوز اللحظة إلى استبصار المستقبل؟
إن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يشهدها المغرب، رغم راهنيتها، لا تستحق أولوية فوق أولوية تدبير الموارد المائية، لا فقط كمادة حياتية، بل كمعطى فلسفي وجودي، يحدد علاقتنا بالأرض، وبالزمن، وبالمصير المشترك. الماء ليس مجرد عنصر طبيعي يُستهلك، بل هو ذاكرة المكان، ومؤشر العمران، وجوهر الأمن الشامل، بما فيه الأمن الغذائي، البيئي، بل والسيادي.
حين نتحدث عن التنمية، فإننا لا نقصد فقط مؤشرات الناتج الداخلي الخام، أو نسب الاستثمار الخارجي، بل نتحدث عن قدرة المجتمع على تأمين شروط استمراره الطبيعي، عبر تدبير مستدام لموارده الأساسية. في صلب هذا التصور، لا يمكن للنموذج التنموي الجديد في بعده الوطني أو الجهوي أن يحقق أهدافه دون أن يكون الماء مركزًا فلسفيًا لا تقنيًا فقط باعتباره الركيزة التي يتأسس عليها أي مشروع مجتمعي...
المغرب، بموقعه الجغرافي وبنياته الهيدرولوجية وتنوعه المجالي، يواجه تحديات مائية مركبة، تتطلب مقاربة جهوية متعددة الأبعاد، حيث لا يُعقل أن تبقى بعض الجهات تعاني من العطش بينما تُستنزف الفرشات المائية في مناطق أخرى باسم الاستثمار أو الفلاحة التصديرية. هنا تتجلى سؤال العدالة المائية كجزء من العدالة المجالية، وتطرح الحاجة إلى حكامة ترابية جديدة، تُدمج الماء في قلب التخطيط الترابي، لا كعنصر ختامي، بل كمعيار للعدالة التنموية.
ولا أقصد بالجهوية هنا المفهوم الإداري فحسب، بل أفتح الرؤية على أفق الجهوية الدولية – الإقليمية، خصوصًا على مستوى شمال إفريقيا، حيث التحديات المائية متشابهة، والمصائر متقاطعة، والموارد المائية عابرة للحدود. ما نحتاجه هو تفكير جماعي إقليمي في إطار فلسفة التعاون لا التنافس، وبناء تحالفات مائية لا فقط تحالفات اقتصادية أو أمنية.
من منظور فلسفة التنمية، يعتبر الماء أحد العناصر التي تفضح هشاشة السياسات العمومية حين تغيب الرؤية الاستباقية. فبينما تُشيّد البنيات التحتية الكبرى، وتُعقد المناظرات حول النموذج التنموي، تغيب المقاربات النسقية التي تجعل من الماء روحًا خفية لكل المخططات. ولعل أكبر تجلٍّ لفشل أي مشروع تنموي هو عجزه عن تأمين الكرامة المائية للمواطن.
التحول التنموي لا يبدأ من التكنولوجيات المتقدمة، بل من إدراك الحاجات الأولى للبقاء. ومن لا يضع الماء في قلب فلسفته التنموية، يغامر بفقدان الرابط الحيوي بين المواطن والمجال، بين الإنسان والطبيعة، بين الحق والمسؤولية.
آن الأوان لإعادة ترتيب سلّم الأولويات. فكما أن العدالة، والتعليم، والصحة، والديمقراطية، ركيزة مشروع الدولة الحديثة، فإن الحق في الماء هو المدخل الفلسفي العميق لكل مشروع تنموي أخلاقي وعادل. الماء ليس موردًا… الماء هو الوجود.