الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبدالله بوشطارت:الحوز.. الإقليم المكلوم والمظلوم

عبدالله بوشطارت:الحوز.. الإقليم المكلوم والمظلوم عبدالله بوشطارت
أول ما يثار الانتباه قبل الغوص في ثنايا الحديث عن واقع إقليم الحوز، هو التسمية، الحَوز، وتنطق محليا بصيغة أمازيغية لْحُوزْ، فهي تسمية لا معنى لها تاريخيا وثقافيا واجتماعيا ومعناه لا ينطبق مع بنية ومنطق الطوبونومية الأمازيغية المنتشرة محليا في جميع اسماء الأماكن والمدن والمواقع والدواوير وأسماء التجمعات البشرية وأسماء الأودية والجبال وحتى المجموعات البشرية والاثنية. وهذا معناه أن تسمية الحوز هي وافدة أطلقت على المنطقة من وجهة نظر خارجية، وهي تفيد بالعربية تملك الشيء وتقريبه، لكن التسمية أطلقت على منطقة لا تتملك تلك التسمية/ المفردة ولا هي ناتجة لها. على المستوى التاريخي لا توجد هذه التسمية بهذا المدلول الجغرافي الحالي، فكل المصادر التاريخية الوسيطية وحتى الحديثة والرحالة الذين زاروا المنطقة وكتبوا عنها إلى حدود القرن 19 لا نعثر فيها عن هذه التسمية بنفس المعنى المجالي الذي تحمله اليوم. قد نصادف تسميات تفيد أحواز مراكش واحواز تادلا أو أحواز الرباط وفاس وغيرها، إلا أنها ليست بمفهوم تاريخي حيوي. إلى أن جاء الاستعمار وقام بتثبيت تسمية الحوز في إطار إعادة ترتيب المجال الجغرافي المغربي حسب تقطيعات استعمارية وإدارية وفق أجندة التقدم العسكري والتحكم الترابي الذي كانت تنهجه فرنسا لاستغلال الموارد الطبيعية واخضاع المجموعات والقبائل في السهول والجبال. ولم يتفطن "بول باسكون" الذي كان يناهض طروحات الاستعمار لهذه المسألة بالرغم من أنه ناقش قضية تسمية الحوز تاريخيا ولغويا وجغوافيا في اطروحته القيمة بالفرنسية حول "حوز مراكش".
اذن التسمية، في اعتقادي، غير مناسبة ولا تحمل دلالات تاريخية واجتماعية، بل شكلت مدخلا ومعبرا للظلم والحيف الذي يعيشه الإقليم، لأن يعتبر مجرد حوز مراكش، أو بادية مراكش، أو ريف مراكش. وهذا إشكال تاريخي عويص، يترجم عقم الإدارة الترابية الحالية التي لم تتخلص بعد من تراكمات الماضي التي كانت سببا مباشرا في تخلف المغرب وتقوض فرص البناء والتراكم التاريخي، أهمها حتمية الصراع بين المخزن والقبائل، أو المركز والهوامش، وهي حتمية لخصها ضباط المونوغرافيات الممهدة للاستعمار بثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة. وهي خطاطة استعمارية اعتمدت عليها فرنسا لشرعنة هجومها على القبائل واحتلالها لاراضيها بعد أن تحالفت مع المخزن المتهالك قبيل سنة 1912. فكانت مراكش تمثل الحاضرة المخزنية منذ تأسيسها سنة 1060/1062 بأمر من أگليد الصنهاجي يوسف بن تاشفين. وتشكل القبائل والكونفدراليات المصمودية المحيطة بها منبع القلاقل والمشاكل الدائمة للحاضرة المخزنية مراكش، فالقبائل عادة ما تشن الغارات والحروب على المخزن الذي يسعى دائما إلى اخضاع المجالات القريبة منه والبعيدة والتحكم في مواردها، وخاصة هنا الجبال المجاورة لمراكش. بمعنى أدق "حوز مراكش" هي معادلة غير متوازنة وغير مستقيمة، لأن المجالات التي يطلق عليها اليوم بالحوز لم تكن دائما تابعة لمخزن وحكام مراكش، منذ تأسيسها، حتى على العهد الموحدين الذين اسسوا دولتهم من عصبية المصامدة خاصة الجبال منهم، فإن المنطقة عاشت صراعات كثيرة، وبالتالي فمجال الحوز ظل في صراع دائم مع مراكش الذي كان يمثل مرتع السلطة المخزنية المركزية، وهو صراع تمليه ظروف وشروط موضوعية أهمها الحفاظ على الموارد والماء والمنتجات الطبيعية الكثيرة التي يمتاز بها الحوز. ثم الحفاظ على استقلالية المنطقة التي كانت لها مؤسسات محلية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أهمها دولة إمغارن وتنظيمات إگراون كما تحدث عنها البيذق في كتابه. وقد تمثل كونفدرالية إمسيوان أهم هذه التجمعات التي حافظت على ايقاعها التاريخي حتى عهد الاستعمار الفرنسي...
لذلك كان على القيمين بالأمر اختيار تسمية أخرى محايدة وتتمتع بنوع من استقلال شخصية المجال والإقليم، أما تسمية الحوز فهي تدل على أن الإقليم تابع ورهين بمراكش، وأن الإقليم الشاسع ما هو إلا "ميزاب ينقل مياه الجبال إلى مدينة مراكش". وهذا غير صحيح إطلاقا. لماذا؟
لأن مراكش أنجبتها مدينة أغمات التاريخية التي كانت عاصمة سياسية وتجارية سابقة لمراكش بقرون، وكان يحكمها إمغارن المصامدة، وبعد صعود إيزناگن من الصحراء عبر سجلماسة بزعامة بوبكر بن عمر، (هكذا تذكره المصادر التاريخية لأن اسمه الحقيقي ليس كذلك) ثم بعد نشوب صراع بين امصمودن وايزناگن بسبب استقرارهم في عاصمتهم أغمات تحركت جيوش المرابطون بقيادة زعيمهم يوسف بن تاشفين نحو ازغار الذي يسمى حاليا مراكش، قيل أنه متفق عليه مع إمغارن المصامدة كحد فاصل عن حقولهم واراضيهم المحروثة، وأمر يوسف بن تاشفين ببناء "أگادير" قصر الحجر كقاعدة عسكرية لشن حروب مع البورغواطيين، وسماها "أمور نواكوش" وتعني بالعربية "أرض الله" لأنه كان في نزاع مع المصامدة الذين رفضوا نزول جيوشه في أغمات.
اذن فمدينة مراكش ما هي إلا إبنة أو حفيدة أغمات، التي أصبحت اليوم أطلال وخراب تعيش في عزلة وضياع، أما بعد أن اطاح الموحدون بدولة المرابطين الناشئة، وكان اختيارهم بناء عاصمتهم على اراضي المصامدة خطأ تكتيكيا قاتلا، فإنهم اي الموحدون بالرغم من بقائهم في مدينة مراكش كعاصمة سياسية وعسكرية، فإن عاصمتهم الروحية والدينية هي "تنمل" التي اتخذها زعيمهم الروحي المهدي بن تومرت مركزا له، فهي تتموقع في عمق جبال ما يسمى اليوم ب إقليم الحوز. وقبل هذا وذاك، فجبال الحوز عرفت استقرارا بشريا قديما جدا سابق حتى على ظهور المدينة والحاضرة، ويشهد علي ذلك ما تحفل به قمم الحوز اليوم من نقوشات ورسومات صخرية قد لا نجدها في مواقع أخرى في الصحراء وغيرها، ونخص بالذكر موقع ياگور الحضاري الذي يعتبر من أجمل المواقع للنقوش الصخرية في المغرب وشمال إفريقيا، فهو متحف ثقافي وحضاري مفتوح يمتد على مسافة كبيرة، ويحتوي على رسوم نادرة جدا مثل النقش الدائري الذي يشبه قرص الشمس...
فعراقة المجالات التابعة اليوم لاقليم الحوز الذي يوجد مقره في تاحناوت، هي عراقة تاريخية ممتدة في التاريخ منذ أبعد الفترات، كما أنها مجالات جغرافية متنوعة تضاريسيا وتمتاز بطبيعة خلابة قمم جبلية مكسوة بالثلوج طيلة السنة، وسفوح ذات مناظر جميلة وجبال وأودية دائمة الجريان، مما يعطي للجبال نسيمها العليل ومناخها المعتدل يرطب شيئما حرارة الصيف.. لذلك نجد أن هذه المناطق هي التي تستقطب العدد الهائل من السياح دوليا ووطنيا الذين يتوافدون بكثرة على مدينة مراكش. فكل هذا الاستقطاب الكبير للسياح تستهويه طبيعة ومناظر وجبال إقليم الحوز، القريبة من مدينة مراكش، فالعرض السياحي الذي تقدمه المدينة ليس مغريا بالدرجة المذهلة التي تعرف به مراكش عالميا، وإنما المذهل والساحر هي جبال وشعاب الأطلس الكبير التابعة إقليما إلى الحوز وليس إلى مراكش. فالحوز اجتمعت فيه الحضارة والتاريخ مع جمالية الطبيعة وتكاملها ثم حيوية العنصر البشري الذي يمتاز بالجدية والعمل والإنتاج فالقبائل الأمازيغية التي تستقر بالجبال معروفة بخصائص كثيرة أهمها الثقة والعمل والصبر والاجتهاد.. فما الذي يستفيده إقليم الحوز من العائدات السياحية المهمة التي تستفيد منها مدينة مراكش؟ لا شيئ من دون دخان السيارات والحافلات السياحية التي تعبر يوميا طرقات ومعابر جبال الحوز، يلتقط السياح بعض الصور ثم يلتفتون يمينا وشمالا ويستمتعون بعظمة الأطلس الكبير ثم يعودون ادراجهم صوب فنادقهم بمراكش... كم هو عدد السيارات التي تعبر طريق أوكيمدن وسيتي فاضمة على ضفاف نهر إوريكن/ أوريكا، ليس لدي العدد بالضبط، ولكن مؤكد أنه رقم مهول يعد بالآلاف من السيارات والعربات... فكم هو حجم الدخان والثلوث الذي تفرزه بشكل يومي....
هذا دون أن ننسى أن مناطق الحوز تزخر بمنتوجات محلية وفيرة ومتنوعة، فجبال الاطلس الكبير المطلة على مراكش من جهة توبقال/ إمليل وقمة ملتسن وياگور وسفوحها، زاخرة بكل انواع الفواكه والأشجار المثمرة من جوز ولوز ورمان وتفاح وحب الملوك وزيتون وغيرها... كل موسم بفاكهته التي يفرح الناس بجنيها وبيعها في الأسواق الكبيرة التي يتوافد عليها الناس بكثرة مثل سوق إوريكن وآيت أورير وتغدوين وتاحناوت وامزميز وغيرها...
لكن، رغم كل هذا، إلا أن إقليم الحوز يعيش أزمات واكراهات كثيرة ومتعددة مرتبطة بالتنمية المحلية وصعوبة الولوج إلى الخدمات العمومية والاجتماعية، فالمجال الجغرافي والطبيعي لاقليم الحوز يتعرض لاستغلال بشع واستنزاف مفرط ومستمر لموارده وإمكانيات، كما أن الإنسان الذي ينتمي إلى هذا الإقليم يتعرض بدوره إلى ابشع أوجه الاستغلال السياسي من خلال توالي الحكومات والمجالس المنتخبة التي تقوم بامتصاص الميزانيات المرصودة لكنها لا تعطي المردود التنموي المنتظر منها. لأسباب كثيرة ومتداخلة، أهمها العملية الانتخابية والتمثيلية، فأغلب السياسيين تحولوا إلى طغاة يكدسون الثروات عن طريق الانتخابات وعلى ظهر الفقراء والمهمشين في السفوح... لإن في مثل هذه الأوضاع تلعب النخب السياسية المحلية دورها في الترافع والتوعية والتنسيق، وحين تكون هذه النخب هشة تغلب مصالحها الشخصية على المصالح العامة وهموم الساكنة، فإن البلاد تكون عرضة للضياع..
فالاقليم لم يستفد شيئا من إمكانياته السياحية الكثيرة والطبيعة والمعدنية، فأصبح خلفية تنهش مدينة مراكش مواردها، فوثيرة تطور مدينة مراكش سريعة جدا على مستوى البنيات والخدمات والطاقات والفرص، عكس سفوح الحوز التي تساهم بشكل كبير جدا في عائدات السياحة التي تدخل إلى مراكش المدينة وجلب السياح من مختلف دول العالم، وحتى بعض المستثمرين الذين انجزوا منتجعات سياحية متطورة ومزدهرة في الحوز تستهدف زبائن وسياح من الطبقة البرجوازية والغنية بأثمنة خيالية، فهي لا تساهم بأي شيئ في التنمية المحلية وتشجيع فرص التعليم والخدمات الصحية ومساعدة النساء. فقد زرت مؤخرا قصبة سياحية في منطقة جبلية تابعة لاقليم الحوز، تحجز فيها غرفة لليلة واحدة بسعر يراوح ما بين 6000.00 (ستة آلاف درهم) و 7000.00 (سبعة آلاف درهم) دون وجبة عشاء، وهو سعر مرتفع جدا. لكن تحت الهضبة التي توجد بها القصبة تقع دواوير ترزح تحتَ فقر مدقع تنقصها ابسط شروط العيش الضرورية، أهمها الماء والطريق وغيرها... فما هو دور هذه المشاريع الاستثمارية في العالم القروي إن لم يكن لها وقع تنموي على الساكنة المحلية... ؟
نسوق هذا الكلام، والجميع يتحدث عن مشروع أوكيمدن السياحي المندمج بإنشاء منتجع سياحي كبير بالثلج الاصطناعي... فإن لم يؤسس هذا المشروع في ظل تصور تنموي شامل يضع الإنسان الذي يستقر في سفوح تلك الجبال في صلب المشروع والاهتمام به مع احترام الثقافة الأمازيغية واللغة الأمازيغية والحضارة الامازيغية(التكرار متعمد) التي تعتبر هوية المجال وتجسد ماهيته الثقافية، فإن المشروع لن يعطي المنتظر منه وسيتحول إلى قطعة ثلج سرعان ما ستذوب على صخرة الواقع... فلابأس أن يكون مشروع أوكيمدن في خدمة مراكش وتعزيز عرضه السياحي، لكن أيضا يجب أن يكون في خدمة المناطق الجبلية المتاخمة لأوكيمدن، لأن الخلاصة الحالية هي أن مراكش تزداد ثروة وغنا وازدهارا، في حين الحوز وساكنته يزدادون فقرا وحرمانا...
فقبل أن نتحدث عن التنمية والمشاريع والدراسات والميزانيات، لابد من الحديث أولا عن الرؤية/ عن النظرة التي يتم النظر بها إلى إقليم الحوز وخاصة المنطقة الجبلية منه ذات الخصوصية الأمازيغية من طرف الإدارة ومن طرف مجلس جهة مراكش آسفي، هي نظرة تحتاج إلى تقويم وتصحيح، لكي تكون نظرة منصفة ذات البعد الشمولي الذي يضع العدالة المجالية هدفا استراتيجيا وليس شعارا سياسيا فحسبْ..
 
 
عبدالله بوشطارت، كاتب واعلامي