الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد القهار الحجاري: الحزب اليساري الكبير والحاجة إلى ثورة ثقافية

عبد القهار الحجاري: الحزب اليساري الكبير والحاجة إلى ثورة ثقافية عبد القهار الحجاري

إن العائق الأساس أمام تطور اليسار المغربي اليوم يتمثل في الثقافة السياسية الحزبية، وتحديدا يكمن في ضعف قدرة أحزاب اليسار على تمثل مبدأ الديمقراطية بما فيه الكفاية، وذلك على مستوى الممارسة النضالية والحزبية وعلى مستوى السلوك لا في الخطاب السياسي.

 

ولذلك يحتاج اليسار إلى ثورة ثقافية تهز أركانه، ليتحول إلى مدرسة للديمقراطية من شأنها تقوية أحزابه ومؤسساته وتطوير صيغ الوحدة، ثورة تتجاوز الخطاب الديمقراطي الرنان نحو سلوك مدني ديمقراطي بناء لدى مناضليها وقياداتها لتكون قدوة المجتمع السياسي ونبراس الجماهير.

 

الثورة الثقافية ليست ترفا، بل حاجة تاريخية لكنس الشوفينية المناطقية والقبلية وذهنيات التقديس والاتباع... وما نشهده اليوم من ممارسات مشينة في حق اليسار يؤكد أولوية البناء الحزبي الذاتي على قاعدة المدرسة الحزبية كأداة لهذه الثورة الثقافية لتطوير تمثل قيمي سلوكي لمبدأ الديمقراطية التي طالما اعتبرها اليسار القديم فكرة بورجوازية، ولا يزال هذا الموقف يتحكم في الممارسة الحزبية والنضالية، وفي التعاطي مع الاختلاف بالإقصاء والنبذ والاستمرار في اعتماد صيغ عفى عليها الزمان كالكوطا ولجنة الترشيحات والمركزية الديمقراطية...

 

لقد سيطر الهاجس الانتخابي على اليسار برمته وغاب البعد المدرسي، غاب التكوين والتأطير وغابت التربية الحزبية الديمقراطية.

  

التناقض في الجدل هو مولد الصراع ودينامو التطور، لكن ما يحدث أنه في اللحظة السياسية التي تقتضي التركيز في التناقض الرئيسي ينفجر الخلاف بين الرفاق (التناقض الثانوي) ويتخذ أشكالا تصعيدية خطيرة، في غياب هيئة قادرة على احتواء الانفلات، فيصعب تغليب هذا التقدير الذي يقتضي المزيد من رص الصفوف لمواجهة الاستحقاق الانتخابي بالتميز المرتقب وتخطيه من دون أن يشكل عائقا يكرس فكرة أن أحزاب اليسار كلها واحدة وأن الأحزاب كلها ملة واحدة وفكرة "أولاد عبد الواحد كلهم واحد "، خاصة وأن الشارع المغربي قد لاح له بصيص من الأمل مع الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار الديمقراطي وتجربتها المتميزة في البرلمان.

 

التناقض الذي أريد الإمساك به هنا ذو طابع بنيوي ويتصل بملامح اليسار المغربي اليوم، وهو التناقض بين مشروع اليسار الوحدوي ونزوعه نحو الانقسام والتشرذم، بين حلم بناء الحزب اليساري الكبير والانزلاق نحو الانشقاق والتشتت، التناقض بين حلم قديم راهن وحاجة قائمة (بناء الحزب الثوري)، وواقع حزبي تقليدي عقيم يفتقر إلى شرط الديمقراطية كي يتطور، وتعوزه قيم نكران الذات والتضحية في سبيل المثال، وتطغى عليه الأجندات الذاتية والانتخاببة، علما أن الحزب المنشود عليه أن يساهم بقوة في ترسيخ الديمقراطية والتقدم في بناء الدولة المدنية...

 

وفي الواقع هناك أطروحتان للحزب الكبير؛ أطروحة الحركة الاتحادية، وترى أن جل مكونات اليسار المغربي أصله "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" المنشق بدوره عن حزب الاستقلال، والأصل عند آخرين هو "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، قادت هذه الأطروحة عددا من الأطر والقيادات اليسارية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي في التسعينيات، من أبرزهم مجموعة أحمد لمريني والحزب الاشتراكي الديمقراطي المنشق سنة 1996 عن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وكان هذا الترحال العبثي تيها من دون أفق، فأين هؤلاء الآن؟ ونعيش اليوم هذا التوجه نحو الحزب الكبير بأطروحة "الحركة الاتحادية" أي إحياء الحزب اليساري الأقوى حزب القوات الشعبية الذي انحرف عن خط اليسار في السنين الأخيرة، وهي أطروحة غير وحدوية بل محض إحيائية، والنزعة الإحيائية نزعة غير ديمقراطية وغير واقعية، أما الأطروحة الثانية فهي القائمة على توحيد اليسار المغربي برمته وبغض النظر عن أصوله التاريخية في حزب قوي وفي أفق الدولة المدنية الديمقراطية.

 

إن مما يعيق التقدم نحو بناء هذا الحزب اليساري الكبير هو الثقافة الحزبية التقليدوية سواء فيما يعرف بالحركة الاتحادية أو في اليسار الجديد، وهي قائمة على عقليات لم تتمثل بما يكفي قيم الديمقراطية.

 

يقدم اليسار اليوم البرهان أنه ابتعد كثيرا عن كونه مدرسة للديمقراطية، تكرس تربية المناضلين على سلوك مدني يقبل الاختلاف ويتعامل معه بعقلانية لا بمزاج سياسي يحكمه التعصب والحلقية والولاء للقبيلة، والاختلاف يكون على أساس المواقف والتصورات وليس انطلاقا من حزازات وحسابات ذاتية كما يحدث اليوم لكثير من الرفاق الذين صاغوا مواقفهم بسرعة البرق انطلاقا من مواقف ذاتية معينة سواء مع أو ضد، وبتقديرات شخصية بعيدة عن الموضوعية.

 

الثورة الثقافية الحزبية المأمولة، تبدأ بصياغة كتاب أبيض للمدرسة الحزبية من أجل بناء قطائع مع التقليدوية وتربية جيل من المناضلين يتشبع بقيم اليسار وقيم الحداثة والديمقراطية خطابا وسلوكا، مع خطط لتقوية القطاعات الحزبية الداخلية، والتوجه من الحزب نحو القطاعات الجماهيرية، في حين تاه الكثير من الرفاق في واجهاتهم النقابية والجمعوية وأهملوا بناء الحزب، كما يجب التأكيد على تقوية المؤسسات الديمقراطية الحزبية أولا قبل المؤسسات الانتخابية في الدولة، ونبذ الكولسة وعبادة الشخصية ومحاربة الفصام الايديولوجي والفكري، ونبذ كل أشكال الولاء المعادي للوطن كالولاء للمنطقة والقبيلة والطرقية الحزبية وإدانة كل تصالح مع الفساد، والتحلي بأخلاق المناضل الديمقراطي المترفع عن أسلوب الشتم والقذف والتشويه والافتراء والبوليميك الحلقي العقيم وإفشاء السر التنظيمي...

 

التوجه لبناء المدرسة الحزبية هو الطريق لبناء الحزب اليساري الكبير والقوي بعيدا عن أية أطروحة سلفية، فتاريخ اليسار المغربي مبعث اعتزاز وتراثه غني وحري بنا الاستفادة منه لكن دون تقديس أو إحيائية فجة، ضمن هذا التصور يأتي الاستحقاق الانتخابي في سياق العمل الحزبي كواجهة فقط لا كهدف أول وأخير للعمل الحزبي، وعلى هذا الأساس تأتي صيغ التحالف اليساري، فلا جدوى من الاندماج على قاعدة الهشاشة والتقليدوية الحزبية، والنزوع الانتخابوي.