الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

حميد النهري: بعض مؤشرات الجدال السياسي المحتدم حول قفة رمضان!؟

حميد النهري: بعض مؤشرات الجدال السياسي المحتدم حول قفة رمضان!؟ حميد النهري

في خبر غريب نُشِر مؤخرا على أحد المنابر الإعلامية الوطنية، ورغم أنه مر مرور الكرام ضمن الأخبار التي نتتبعها كل لحظة عبر مختلف المواقع الاخبارية؛ إلا أن إعادة الترويج للخبر من جديد بحر هذا الأسبوع بتزامن مع الجدال السياسي الذي يعرفه المجتمع حول ما أصبح يعرف بقفة رمضان، وتزامنه أيضا مع ذكرى فاتح ماي عيد العمال، مسألة استفزتني بشدة، لذلك أردت من خلال هذه السطور أن أناقش معكم مضمون هذا الخبر وأقدم بعض التوضيحات حوله.

 

الخبر الغريب مفاده أن أغنياء ومليونيرات المغرب عقدوا اجتماعا في بداية شهر رمضان الجاري، وصفوه بأنه تاريخي وغير مسبوق، وكان هذا الاجتماع من أجل مناقشة نقطة فريدة في جدول أعماله، وهي كيفية انتشال الفقراء والمعدمين من شبح الحاجة والحرمان.

 

إذا نظرنا إلى هذه المبادرة من زاوية بسيطة نقول إن أصحاب هذه المبادرة تَحَرّك فيهم أخيرا إحساسهم الوطني والديني وأرادوا مساعدة الفقراء، لذلك فضلوا -حسب تصريحاتهم- الاجتماع بعيدا عن وسائل الإعلام، حرصا منهم على إحساس الفقراء والمعدمين. كما حرص المشاركون أشد الحرص في هذا الاجتماع على تقديم تصورات واقتراحات، في نظرهم، جديدة تستطيع أن تضمن كرامة الفقراء، وذلك من قبيل الصدقة الزكاة أو إدماج هؤلاء الفقراء في مصانع ومعامل الأثرياء.

 

لكن إذا نظرنا إلى المبادرة من زاوية معمقة يتبين أن أصحابها يتوجهون نحو استغلالها مستقبلا بطريقة كاريكاتورية الشيء الذي سينعكس لا محالة إيجابا عليهم من خلال شرعنة الامتيازات التي يحصلون عليها، وستنعكس المبادرة سلبا على المجتمع من خلال تكريس واقع اجتماعي غير سليم.

 

لذلك دعونا نناقش الأمر بكل صراحة ووضوح دون أن نغطي الشمس بالغربال. فالمبادرة في نظري يمكن تصنيفها كنوع من أنواع (الطنز) تسعى كما هي العادة في مثل هذه المبادرات إلى استغباء وإسكات الشعب المغربي، خصوصا الطبقات الاجتماعية الهشة التي لم تعد قادرة صراحة على تحمل حجم الضربات التي تتعرض لها من طرف مختلف الفاعلين: دولة، أحزاب سياسية، جمعيات، وحاليا ما يسمى بالأغنياء والميليونيرات كما جاء في المقال الذي تطرق لهذا الاجتماع..

 

وحتى لا يقال إننا متحاملين على أصحاب هذا الاجتماع، يمكن أن نوضح الأمر بشكل أكثر موضوعية، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال أساسي هو، كيف وصلت نسبة الفقر ببلادنا إلى هذه المستويات الخطيرة جدا؟؟ في الحقيقة حتى قبل جائحة كورونا والتي بينت مختلف الدراسات أنها فقط عملت على تعقيد الوضع وعَرَّت هشاشة السياسة الاجتماعية ببلادنا .

 

الإجابة عن هذا السؤال الهام تجعلنا نستنتج أن المسؤولية مشتركة، من جهة مسؤولية الدولة، ومن جهة أخرى مسؤولية رأسمال الأثرياء.

 

ويظهر ذلك بجلاء من خلال بعض المؤشرات:

 

أولا: لا أحد ينكر أن الدولة غالبا ما نهجت وتنهج سياسة تضحي بالجانب الاجتماعي، وفي المقابل تراهن بشدة على طبقة الأثرياء وتقدم لهم جميع الامتيازات.

وقد أكدت ذلك خلاصات العديد من التقارير الدولية والوطنية التي أجمعت على أن العدد الكبير للفقراء في بلادنا هو نتيجة حتمية للسياسات الغير اجتماعية التي نهجتها الحكومات المتعاقبة.

 

ثانيا: سياسة الدولة تعتمد منذ عقود على نظام اقتصادي يعمل على تبني اختيارات تكرس وتعمق الفوارق الاجتماعية وتؤدي إلى التهميش وانتشار الفقر. في المقابل لم يستطع رأسمال الأثرياء المستفيد الأكبر من مختلف الامتيازات أن يكون في مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه، وبقيت مساهمته في تحقيق التنمية دائما محدودة جدا.

 

ثالثا: الاختيارات الاقتصادية جعلت الدولة تراهن على ليبرالية اقتصادية غريبة يسميها المحللين (ليبرالية ممغربة) à la Marocaine والتي تقوم على اقتصاد الريع والاحتكار البعيد كل البعد عن اقتصاد السوق المتعارف عليه في الأنظمة الليبرالية الحقيقية. الشيء الذي أعطانا طبقة من الأثرياء لم تستطع تطوير نشاطها ليتماشى ونشاط السوق. بل جعلها تابعة للدولة وترتبط بريعها كوسيلة لمراكمة الثروات وبذلك كرست ظاهرة الاستغلال الفاحش للطبقات الاجتماعية الهشة والدفع بها نحو عتبة الفقر.

ويظهر ذلك بجلاء مثلا من خلال توزيع عائدات الناتج الداخلي الخام ما بين الرأسمال والعمل والتي تتم بشكل غير عادل، حيث تحصل فئة الأجراء على أقل من ثلث العائدات في حين تحصل الطبقة الرأسمالية على أكثر من الثلثين، وهو توزيع مخالف لما هو معمول به في تجارب دول أخرى.

 

رابعا: قرارات اقتصادية دائما تخضع لسيطرة اللوبيات الاقتصادية والسياسية، والتي أصبحت تستعمل في السنوات الاخيرة وسائل أكثر تأثيرا لضمان استفادة أكثر. حيث أن الأثرياء استطاعوا من خلال هذه السيطرة مراكمة أموال كبيرة نتيجة مختلف الامتيازات التي تمنحها الدولة. في المقبل تقهقر طبقات اجتماعية الى عتبة الفقر والهشاشة.

كما أن الاقتصاد الوطني من جهة أخرى أصبح اقتصاد مديونية ومرهون بإملاءات صندوق النقد الدولي، الشيء الذي يدفع إلى تكريس سياسة اللاجتماعية تزيد عدد الفقراء.

 

خامسا: اعتماد نظام ضريبي يخدم مصالح الرأسمال والثروة ويزيد الضغط على الأجراء والطبقة المتوسطة ويدفعها نحو خط الفقر.

فأهم ميزة تميز نظامنا الجبائي هو اللاعدالة، ويظهر ذلك من خلال اعتماده أكثر على الضرائب الغير مباشرة، خصوصا ضرائب الاستهلاك، غياب ضريبة تهم الأثرياء سواء على الثروة أو على الإرث، الشيء الذي يجعل العبء يقع أكثر على الدخول خصوصا المتوسطة.

 

هذه بعض المؤشرات الناتجة عن سياسات غير عادلة إذا أضفنا إليها العديد من الظواهر المتفشية في مجتمع الأثرياء من قبيل (تهريب الأموال للخارج مخالفة الواجب الضريبي غياب الوعي الضريبي...) كل ذلك خلق وضعا يتميز باحتقان اجتماعي خطير أصبح يهدد أكثر من أي وقت مضى السلم الاجتماعي ويزيد من حدة الفقر والهشاشة لدى فئات واسعة من المجتمع.

 

إذن الدولة اليوم ليس لها إلا خيار وحيد وهو ضرورة تحملها للمسؤولية وأن تنهج سياسة اجتماعية تعطي الأولوية للجانب الاجتماعي وتقطع مع المقاربات السابقة.

فأغلب الدراسات المعاصرة تثبت أن التنمية الحقيقية تقتضي أن الجانب الاجتماعي يأتي قبل الجانب الاقتصادي، بل أكثر من ذلك أن الجانب الاجتماعي يعد الممر الرئيسي لتحقيق التنمية المستدامة.

كما أن الدولة مطالبة أيضا بإعادة النظر في علاقتها، من جهة مع الطبقات الاجتماعية الهشة والمصالحة معها، ومن جهة أخرى مع طبقة الأثرياء، وذلك بأسس جديدة قوامها تخفيف الاحتقان والحفاظ على التوازن الاجتماعي.

 

ومن هنا لا يسعني إلا أن أوجه صرخة ضرورية في وجه أصحاب مبادرة اجتماع الأثرياء والميليونيرات وأقول لهم بصوت عال: أيها السادة وأيتها السيدات (الأغنياء) آخر ما يحتاج له الفقراء في هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها بلادنا جراء تداعيات جائحة كورونا، هو إحسانكم الخبيث، لا نريد أن يكون هؤلاء الفقراء واجهة لاستعراض تعاطفكم المزور الكاذب ولإظهار دموعكم، التي أقل ما يقال عنها إنها دموع تماسيح لا ترحم.

 

فقط يجب أن تتحملوا مسؤوليتكم الوطنية وتؤدوا ما بذمتكم للدولة والمجتمع قبل فوات الآوان، فإذا تهدد السلم الاجتماعي لن تكون للثروة فائدة.

 

- حميد النهري، أستاذ التعليم العالي بطنجة