الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

"الأروقة السوداء" رواية تسائل المجتمع عن أطفال القمر

"الأروقة السوداء" رواية تسائل المجتمع عن أطفال القمر ليلى حنانة
 صدرت الطبعة الثانية من رواية "الأروقة السوداء" للكاتب محمد النعمة بيروك عن منشورات "دار الراشد للنشر والتوزيع" بدولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت الرواية قد دخلت القائمة الطويلة لـ"جائزة راشد بن حمد الشرقي" في دورتها الأولى. 
تتحدث رواية عن الطفل "بدر" الذي يعيش في بيت مظلم لا تدخله أشعة الشمس، وهو ما فُرض عليه من طرف أمه المختطِفة التي تعاني مشاكل وضغوطات المجتمع، والمتمثّلة في العقم والدخل الهزيل لرب الأسرة والخلافات العائلية مع أخواتها.
تحمل الرواية رسائل متعددة للمتلقي من خلال اختيار الأسماء ومدلولاتها، وتعتبر شخصية الأم المحرك الرئيسي للأحداث، هذه الشخصية التي تمتهن التمريض الذي استفادت منه إيجاباً وسلباً؛ إيجابياً لأنها المعيل لأسرتها، وسلبياً لأنها لم تحافظ على أخلاقيات المهنة واستغلت وجودها في المشفى في أمور غير قانونية، إنها امرأة تعاني العقم وتخشى نظرة المجتمع، الشيء الذي دفعها إلى التفكير في تبني الابن الأكبر والبنت والذهاب إلى أكادير لكي توهم العائلة والمعارف والأصدقاء أنها ذهبت إلى إحدى المصحات للإنجاب، ولم تكتف بالولدين بل اتفقت مع زوجها على سرقة الابن الثالث بعد أن مكثت في تلك المدينة سنة كاملة حتى يكبر.
بالنسبة للابن "البكر" بكار فهو شخصية انطوائية لا تحب الجلوس مع الأهل، عنيف خصوصا مع بدر الصغير، فهو يقسو عليه، وإن كان يحاول تمثيل دور الأب بعد غياب هذا الأخير. 
أما شخصية سمية الأنثى الوحيدة بين بدر وبكار فتدرس بالثانوية، وقد تم تبنيها عندما كان عمرها سنة، صبورة لأنها تتحمل المشاكل الأسرية والمسؤولية التي أصبحت تقوم بها من عناية بأخيها بدر وأشغال البيت، قصيرة القامة وكثيرة الوشايات ورهيفة القلب.
في موضوع العقم نجد الأم تمثل دور الفاعل الذي يسعى وراء تحقيق اختطاف الطفل بدر، وهذا الاختطاف هو موضوع القيمة، وبالتالي فالعلاقة التي تجمع بين الذات والموضوع هي علاقة الرغبة، فرغبة الأم في هذا الموضوع العلم جعلها تفكر في الاختطاف.
يعتبر الخوف من فضح السر والخشية من العقوبة ونظرة المجتمع الدافع الرئيسي الذي جعل المرأة تُرغم الطفل بدر على المكوث في البيت وعدم السماح له بالخروج مطلقا، فالمرسل إليه الذي طبّق عليه موضوع السجن في البيت هو الطفل بدر الذي ينتمي لأطفال القمر، وبالتالي فالمرسل والمرسل إليه تجمعهما علاقة اتصال لا مفر منها، لأن الأروقة السوداء حكمت على هذه العملية بالنجاح.
تحتل المرأة في هذه التركيبة دوراً عاملياً متمثلاً في الذات، ويتجلى ذلك من خلال إصرارها على وضع أروقة سوداء تحجب الرؤيا عن بدر لكي لا يرى ما يقع في الخارج ويتعرف على الناس، وأيضا لكي لا يتعرف عليه الناس لأنه يحمل علامة في جبينه تؤكد أنه الطفل المبحوث عنه.
منذ بداية القصة لم نألف وجود أي عامل معارض لأفعال المرأة السيئة سواء التعذيب أو السرقة أو السجن في بيت مظلم، فقد كانت هي المسيطرة في البيت وتملك القدرة على تنفيذ فعلها، لكن في التركيبة عموما انقلب كل شيء، فأصبحت الأم هي المسجونة، وهي التي ستمكث خلف الأروقة السوداء بعد أن كشفت الذات (بكار) حقيقتها من خلال الوثائق التي وجدها.
اعتمدت الرواية عموما تقنية الإيجاز الخاص بالماضي، وهو اختزال لأحداث جرت في زمن الماضي عن طريق سرد سريع، كقول السارد في الرواية قيد التحليل: "بدأت القصة حين تزوّجتُ من ابن عمّي قبل أكثر من ثلاثين سنة، وتأخّر الإنجاب لبضع سنوات، حيث بدأنا إجراء الفحوصات اللازمة دون أن نشعر أحدا بالأمر، كنا ندّعي السفر لقضاء العطل، فيما كنا نمضيها في الحقيقة بين المستشفيات…" (الرواية).
أيضا إيجاز خاص بالحاضر، حيث الأحداث مختزلة لفترة زمنية معينة مثل قول السارد: "إنها تملك الشجاعة والقوة مثلا للوقوف في وجه أعتى رجل إذا لزم الأمر كما رأينا ذلك بأنفسنا في حالات معينة سابقة، ويمكن مثلا أن تحمل المصباح في ظلمة الليل وتصعد إلى السطح وحيدة إذا سمعت صوتا غريبا، دون أن يرفّ لها رمش ممّن يمكن أن يكون قد أصدر ذلك الصوت" (الرواية).
بالنسبة للمكان الروائي فهو كائن حي وفاعل ومؤثر، وحضوره غير اعتباطي، بل يساهم في سير أحداث الرواية وتطورها، حيث به تمتلك كل حركة روائية سواء كانت الشخصيات، أو الأحداث، أو الزمان، أو الفضاء المغلق، تجتمع فيه معظم الشخصيات الرئيسة للرواية، بما في ذلك الأم، والأب، وسمية، وبكار، وبدر؛ فالأسرة تجتمع داخل البيت بعد عودة الأم من العمل، هذا البيت الذي يتكون من طابقين/ طابق علوي وطابق سفلي وصالون ومطبخ وحمام.
يشكل الصالون متنفساً للطفل بدر المحروم من الخروج إلى العالم الخارجي واللعب رفقة الأطفال، بل أصبح الصالون شبيهاً بحجرة الدرس لهذا الطفل الذي حُرم من الذهاب إلى المدرسة.
"فقد كنتُ أيضا أمثّل خلال لعبي في الصالون وحيدا دور تلميذ مجتهد أو تلميذ مشاغب، وأحيانا تشاركني سميّة هذه اللعبة، حيث أجالس زملائي الوسائد أمام مراقبة المُدرّسة سمية، والسبورة التي هي عبارة عن إحدى تلك الستائر السوداء" (الرواية)
أما مطبخ البيت فقد كان فضاء عزلة الأم التي تهرب من أسئلة بدر زمن المشاجرة مع زوجها، وكان الفضاء الذي يشحنها بالكراهية والعنف تجاههم رغم بقائها وحيدة فيه، لكن ربما بسبب تذكر الأحداث وضغط العمل وتراكمها تكاد تنفجر من الغضب، خصوصاً أثناء تحضير الشاي والطعام.
يقصد بالسجن في الرواية ذلك السجن الذي عاش فيه الطفل بدر الحرية والسجن في آن واحد، يقول: "المنزل الذي أشعر فيه أني مثل سمكة تسبح في حوض صغير تلامس أجنابه ثم تعاود الكرّة باستمرار.. أجزم أني أستطيع التحرّك فيه وأنا مغمض العينين، فقد حفظتُ عن ظهر قلب كل شبر فيه، أعرف حتى شكل الطنافس في الصالون وعدد الأرائك في الباحة والوسائد في المنزل عموما، وحتى أواني المطبخ أعرفها معرفة "شخصية"، كما أعرف كل التفاصيل المعلقة على الحيطان، أو الموضوعة على الخزانات والدواليب، وألوان الأفرشة وأحجامها، وأشكال النقش على السقف، وكل شيء…" (الرواية).
وظف الكاتب البيت في روايته كسجن مظلم بأروقته السوداء، لأن بدرا كان مجبراً على البقاء في تلك الإقامة الجبرية، فهو في نظره "شبيه بوكر للأشباح". لهذا عمد الكاتب إلى توظيف هذا المكان ليبرز المعاناة التي يعانيها بدر بصفة خاصة، وأطفال القمر بصفة عامة، والإكراهات التي يعانونها باعتبارهم فئة تقريبا.
لقد كانت الشخصيات الروائية عموما قريبة من الواقع، فهي تحمل بنية دلالية متعددة، كما سلط الكاتب الضوء على شخصيات بسيطة ذات سلطة متجذرة في ماضيها، تبحث عن وجودها في هذا العالم.
الزمن في الرواية كان منعرجاً ممتلئا بالاسترجاعات والاستباقات، وسيظل هذا النص عرضة لتعدد القراءات واختلافها، وهو ما يكسبه طابع الأدبية والفنية وخصوصاً في إثارة فضول المتلقي وفتح شهيته على التحليل.
لقد عالجت الرواية عموما مواضيع اجتماعية شتى، غير أنها مالت عموما إلى معاناة أطفال القمر كفئة اجتماعية غير ملتفت إليها بالقدر الكافي، فئة من المرضى شبه منسية في المجتمع، ويتعرضون لإكراهات كثيرة.
 
                                                                                  ليلى حنانة (باحثة في سيميائية الحكي الشعبي)