في لحظة مشحونة بالتناقضات، يلوح في الأفق مشهد غريب التركيب: زيارة مسعد بولس، المسؤول الأمني الأمريكي الرفيع، إلى كل من الجزائر والمغرب، في جولة لم يصرّح خلالها حرفًا واحدًا بخصوص قضية الصحراء المغربية، وكأنه يرقص على حبل دبلوماسي مشدود لا يحتمل الانحياز. لكن ما قاله يكشف ما لم يقله: “أمن المنطقة هو الأولوية القصوى، ويتطلب تحقيق السلام، وهزيمة الإرهاب، وتأمين الحدود، وتعزيز التجارة العادلة”، ليضع بذلك نقطة النهاية لبداية الأسئلة، لا لأجوبتها. فماذا يعني الأمن في منطقة متوترة مثل شمال إفريقيا؟ وهل يمكن الحديث عن الأمن دون الاقتراب من النار المشتعلة في قلب نزاع الصحراء؟ وهل الأمن انفصالٌ عن الإرهاب أم مجرد وجه آخر له في عباءة سياسية؟
من هنا تبدأ خيوط التوتر في الالتفاف. الأمن، ذلك الشعار المطاطي، الذي يعاد تشكيله حسب مصالح القوى الكبرى، لا يمكن فصله اليوم عن الكيان الانفصالي المسلح الذي يُدعى “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” – البوليساريو. هذه الجبهة، التي تأسست في سياق الحرب الباردة، اختارت السلاح لغة أولى، ورضعت من حليب الأنظمة الشمولية، وظلت لعقود تجد في الأراضي الجزائرية حاضنة لميليشياتها، ومستودعًا لتحركها في المنطقة. ما يجعل من الجزائر، شاءت أم أبت، طرفًا مباشرًا في أي معادلة أمنية تتعلق بالمغرب.
الزيارة التي قام بها مسعد بولس إلى الجزائر قبل المغرب، دون أن يصدر أي بيان بشأن الصحراء، يمكن قراءتها بطريقتين. الأولى: أنه تفادى إثارة ملف حساس خشية إغضاب الجزائر، التي تربطها بالولايات المتحدة شراكة في ملف الغاز والأمن الساحلي، خاصة في ظل تنامي المخاوف من التمدد الروسي في المنطقة. والثانية: أن الصمت في هذا السياق أبلغ من التصريح، وهو اعتراف ضمني بأن البوليساريو باتت تشكل عنصر تهديد أمني، أكثر منها "حركة تحرير" كما تحب الجزائر أن تقدمها. وهو ما يفسر لماذا تعيد بعض مراكز القرار الأمريكية النقاش الداخلي بشأن تصنيف الجبهة كمنظمة إرهابية، على ضوء تقاطع تحركاتها مع شبكات الجريمة العابرة للحدود، وتنقلات عناصرها بين مالي والنيجر ومنطقة الساحل.
وما يزيد الصورة ارتباكًا هو التزامن الدقيق بين هذه الزيارة وحدثين آخرين لا يقلان أهمية: أولاً، خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على العرش، والذي دعا فيه بصراحة إلى مد اليد للجزائر من جديد، وفتح صفحة الحوار الصريح والمباشر، بعيدًا عن منطق الغالب والمغلوب، مع تأكيد أن لا حل للخلافات إلا بتفاهمات تحفظ ماء الوجه لكل الأطراف. وثانيًا، الأشغال الجارية بهدوء على مستوى مقر السفارة الجزائرية في حي أكدال بالرباط، كما لو أن رياح المصالحة تسري في الكواليس، رغم كل الضجيج الإعلامي.
هكذا، وبين صمت مسعد بولس حيال ملف الصحراء، وخطاب العرش الذي يحمل دعوة للحوار، وأشغال الترميم التي تُفهم كإشارة دبلوماسية غير معلنة، يبدو أن المنطقة تمضي في لعبة رمزية معقدة، تستند إلى خطاب مزدوج: تصريحات تؤكد التباعد، وتحركات توحي بالاقتراب. فهل نحن أمام بداية إذابة الجليد أم مجرد مشهد تمويهي متقن؟ وهل تتحول اليد الممدودة إلى قبضة تفاوض، أم تبقى معلقة في فراغ ينتظر تجاوبًا من طرف متردد؟
منهج التحليل النقدي يفرض علينا طرح الأسئلة الصعبة: إذا كان المغرب قد أعلن أكثر من مرة أن يده ممدودة إلى الجزائر، وإذا كان جلالة الملك يكرر في كل مناسبة دعوة الإخوة إلى تجاوز الخلافات، فلماذا لم نجد حتى الآن أي رد جزائري إيجابي، ولو على مستوى الحد الأدنى الدبلوماسي؟ لماذا تصر الجزائر على تبني خطاب الصراع البارد، وترفض المشاركة في أي مسار واقعي لحل النزاع، وتستمر في تمويل كيان مسلح على أرضها؟ هل يخدم هذا النهج مستقبل الشعب الجزائري نفسه، أم يرتهنه لحسابات داخلية وقومية متجاوزة تاريخيًا؟
الأكثر من ذلك، فإن ربط الجبهة الانفصالية بمفهوم "الأمن" يتجاوز البعد الإقليمي ليصبح جزءًا من تهديد عالمي. هناك معطيات متزايدة حول تسلل عناصر مسلحة من البوليساريو إلى شبكات التهريب والسلاح في الساحل، خاصة بعد انهيار الوضع في مالي وليبيا. ولم تعد مجرد إشاعات، بل تقارير استخباراتية تشير إلى وجود علاقات بين عناصر تابعة للجبهة وبعض الخلايا الإرهابية، مما يجعلها عبئًا لا على المغرب فقط، بل على أمن أوروبا نفسها. فهل تتحمل واشنطن استمرار الغموض في هذه المسألة، وهي التي تقود ما يسمى بـ"التحالف الدولي ضد الإرهاب"؟ وهل ستقبل بروكسيل بأن يكون بجوارها كيان مسلح مشبوه التمويل والمرجعية؟
ما لا يُقال علنًا أكثر مما يُقال. حين يقول مسعد بولس إن "الأمن هو الأولوية"، وإن الهدف هو "تحقيق السلام وهزيمة الإرهاب وتأمين الحدود وتعزيز التجارة العادلة"، فإنه لا يعني فقط تهديد داعش أو بوكو حرام، بل أيضًا كل كيان مسلح غير خاضع للدولة، وكل تحرك انفصالي يسعى لإعادة رسم خرائط الجغرافيا بالسلاح. وهو ما ينطبق على البوليساريو، مهما حاول الإعلام الجزائري إخفاء الحقيقة خلف شعارات "تقرير المصير". فالمصير لا يُقرر بالبنادق، ولا بالتدريب العسكري في مخيمات معزولة، بل بالحوار السياسي ضمن السيادة الوطنية لكل دولة.
ثم إن الخطاب الملكي الأخير لم يكن مجرد مجاملة دبلوماسية. حين يكرر جلالة الملك أن المغرب لا يكنّ عداءً للجزائر، وأنه مستعد للحوار من غير شروط مسبقة، فإنه يعيد تذكير الجار بأن استمرار القطيعة عبث تاريخي، لا يمكن أن يخدم شعبي البلدين. يد ممدودة لا تعني التنازل عن السيادة، لكنها تفتح نافذة أمل نحو بناء مغرب كبير، على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون الأمني والاقتصادي. وفي الوقت نفسه، فهي دعوة ضمنية للجزائر كي تتخلى عن تبني البوليساريو كورقة للضغط، وتتجه بدلاً من ذلك إلى معالجة قضاياها الداخلية التي لا تقل تعقيدًا.
وبين كل هذه الإشارات، تظل الأشغال الجارية داخل مقر السفارة الجزائرية بالرباط نقطة تحتاج لتأمل خاص. فهل يعقل أن تستثمر الجزائر في ترميم مبنى تم تجميد نشاطه؟ أليس هذا اعترافًا ضمنيًا باستمرار العلاقات، ولو في ظل توتر صامت؟ أم أن هناك ما يُطبخ في الخفاء، خارج ضجيج الإعلام وتشنجات الدبلوماسية الرسمية؟ ألا تعني هذه الأشغال أن الجزائر تتهيأ لإعادة بعث علاقتها مع المغرب، دون أن تعلن ذلك رسميًا، كي تحتفظ بخط الرجعة؟
يبدو أن زيارة مسعد بولس، وخطاب العرش، وأشغال السفارة، هي كلها حلقات ضمن سلسلة واحدة: سلسلة إعادة تشكيل المعادلة الجيوسياسية في المنطقة، حيث لم يعد ممكناً عزل الأمن عن السياسة، ولا السياسة عن الاقتصاد، ولا الحوار عن المصالح. وبين كل هذا، يظل المغرب أكثر الأطراف وضوحًا في موقفه، إذ يقول ما يريد ويفعل ما يعلن، بينما تواصل الجزائر لغة الصمت المراوغ، وتدفع بجبهة أصبحت عبئًا بدل أن تكون ورقة ضغط.
فهل ننتظر لحظة تصطدم فيها لغة الغموض بحائط الحقيقة؟ أم أن منطق "لا غالب ولا مغلوب" سينتصر أخيرًا، ليعود العقل إلى موقع القرار، واليد الممدودة إلى مصافحة فعلية بدل أن تظل معلقة في الهواء؟
من هنا تبدأ خيوط التوتر في الالتفاف. الأمن، ذلك الشعار المطاطي، الذي يعاد تشكيله حسب مصالح القوى الكبرى، لا يمكن فصله اليوم عن الكيان الانفصالي المسلح الذي يُدعى “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” – البوليساريو. هذه الجبهة، التي تأسست في سياق الحرب الباردة، اختارت السلاح لغة أولى، ورضعت من حليب الأنظمة الشمولية، وظلت لعقود تجد في الأراضي الجزائرية حاضنة لميليشياتها، ومستودعًا لتحركها في المنطقة. ما يجعل من الجزائر، شاءت أم أبت، طرفًا مباشرًا في أي معادلة أمنية تتعلق بالمغرب.
الزيارة التي قام بها مسعد بولس إلى الجزائر قبل المغرب، دون أن يصدر أي بيان بشأن الصحراء، يمكن قراءتها بطريقتين. الأولى: أنه تفادى إثارة ملف حساس خشية إغضاب الجزائر، التي تربطها بالولايات المتحدة شراكة في ملف الغاز والأمن الساحلي، خاصة في ظل تنامي المخاوف من التمدد الروسي في المنطقة. والثانية: أن الصمت في هذا السياق أبلغ من التصريح، وهو اعتراف ضمني بأن البوليساريو باتت تشكل عنصر تهديد أمني، أكثر منها "حركة تحرير" كما تحب الجزائر أن تقدمها. وهو ما يفسر لماذا تعيد بعض مراكز القرار الأمريكية النقاش الداخلي بشأن تصنيف الجبهة كمنظمة إرهابية، على ضوء تقاطع تحركاتها مع شبكات الجريمة العابرة للحدود، وتنقلات عناصرها بين مالي والنيجر ومنطقة الساحل.
وما يزيد الصورة ارتباكًا هو التزامن الدقيق بين هذه الزيارة وحدثين آخرين لا يقلان أهمية: أولاً، خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على العرش، والذي دعا فيه بصراحة إلى مد اليد للجزائر من جديد، وفتح صفحة الحوار الصريح والمباشر، بعيدًا عن منطق الغالب والمغلوب، مع تأكيد أن لا حل للخلافات إلا بتفاهمات تحفظ ماء الوجه لكل الأطراف. وثانيًا، الأشغال الجارية بهدوء على مستوى مقر السفارة الجزائرية في حي أكدال بالرباط، كما لو أن رياح المصالحة تسري في الكواليس، رغم كل الضجيج الإعلامي.
هكذا، وبين صمت مسعد بولس حيال ملف الصحراء، وخطاب العرش الذي يحمل دعوة للحوار، وأشغال الترميم التي تُفهم كإشارة دبلوماسية غير معلنة، يبدو أن المنطقة تمضي في لعبة رمزية معقدة، تستند إلى خطاب مزدوج: تصريحات تؤكد التباعد، وتحركات توحي بالاقتراب. فهل نحن أمام بداية إذابة الجليد أم مجرد مشهد تمويهي متقن؟ وهل تتحول اليد الممدودة إلى قبضة تفاوض، أم تبقى معلقة في فراغ ينتظر تجاوبًا من طرف متردد؟
منهج التحليل النقدي يفرض علينا طرح الأسئلة الصعبة: إذا كان المغرب قد أعلن أكثر من مرة أن يده ممدودة إلى الجزائر، وإذا كان جلالة الملك يكرر في كل مناسبة دعوة الإخوة إلى تجاوز الخلافات، فلماذا لم نجد حتى الآن أي رد جزائري إيجابي، ولو على مستوى الحد الأدنى الدبلوماسي؟ لماذا تصر الجزائر على تبني خطاب الصراع البارد، وترفض المشاركة في أي مسار واقعي لحل النزاع، وتستمر في تمويل كيان مسلح على أرضها؟ هل يخدم هذا النهج مستقبل الشعب الجزائري نفسه، أم يرتهنه لحسابات داخلية وقومية متجاوزة تاريخيًا؟
الأكثر من ذلك، فإن ربط الجبهة الانفصالية بمفهوم "الأمن" يتجاوز البعد الإقليمي ليصبح جزءًا من تهديد عالمي. هناك معطيات متزايدة حول تسلل عناصر مسلحة من البوليساريو إلى شبكات التهريب والسلاح في الساحل، خاصة بعد انهيار الوضع في مالي وليبيا. ولم تعد مجرد إشاعات، بل تقارير استخباراتية تشير إلى وجود علاقات بين عناصر تابعة للجبهة وبعض الخلايا الإرهابية، مما يجعلها عبئًا لا على المغرب فقط، بل على أمن أوروبا نفسها. فهل تتحمل واشنطن استمرار الغموض في هذه المسألة، وهي التي تقود ما يسمى بـ"التحالف الدولي ضد الإرهاب"؟ وهل ستقبل بروكسيل بأن يكون بجوارها كيان مسلح مشبوه التمويل والمرجعية؟
ما لا يُقال علنًا أكثر مما يُقال. حين يقول مسعد بولس إن "الأمن هو الأولوية"، وإن الهدف هو "تحقيق السلام وهزيمة الإرهاب وتأمين الحدود وتعزيز التجارة العادلة"، فإنه لا يعني فقط تهديد داعش أو بوكو حرام، بل أيضًا كل كيان مسلح غير خاضع للدولة، وكل تحرك انفصالي يسعى لإعادة رسم خرائط الجغرافيا بالسلاح. وهو ما ينطبق على البوليساريو، مهما حاول الإعلام الجزائري إخفاء الحقيقة خلف شعارات "تقرير المصير". فالمصير لا يُقرر بالبنادق، ولا بالتدريب العسكري في مخيمات معزولة، بل بالحوار السياسي ضمن السيادة الوطنية لكل دولة.
ثم إن الخطاب الملكي الأخير لم يكن مجرد مجاملة دبلوماسية. حين يكرر جلالة الملك أن المغرب لا يكنّ عداءً للجزائر، وأنه مستعد للحوار من غير شروط مسبقة، فإنه يعيد تذكير الجار بأن استمرار القطيعة عبث تاريخي، لا يمكن أن يخدم شعبي البلدين. يد ممدودة لا تعني التنازل عن السيادة، لكنها تفتح نافذة أمل نحو بناء مغرب كبير، على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون الأمني والاقتصادي. وفي الوقت نفسه، فهي دعوة ضمنية للجزائر كي تتخلى عن تبني البوليساريو كورقة للضغط، وتتجه بدلاً من ذلك إلى معالجة قضاياها الداخلية التي لا تقل تعقيدًا.
وبين كل هذه الإشارات، تظل الأشغال الجارية داخل مقر السفارة الجزائرية بالرباط نقطة تحتاج لتأمل خاص. فهل يعقل أن تستثمر الجزائر في ترميم مبنى تم تجميد نشاطه؟ أليس هذا اعترافًا ضمنيًا باستمرار العلاقات، ولو في ظل توتر صامت؟ أم أن هناك ما يُطبخ في الخفاء، خارج ضجيج الإعلام وتشنجات الدبلوماسية الرسمية؟ ألا تعني هذه الأشغال أن الجزائر تتهيأ لإعادة بعث علاقتها مع المغرب، دون أن تعلن ذلك رسميًا، كي تحتفظ بخط الرجعة؟
يبدو أن زيارة مسعد بولس، وخطاب العرش، وأشغال السفارة، هي كلها حلقات ضمن سلسلة واحدة: سلسلة إعادة تشكيل المعادلة الجيوسياسية في المنطقة، حيث لم يعد ممكناً عزل الأمن عن السياسة، ولا السياسة عن الاقتصاد، ولا الحوار عن المصالح. وبين كل هذا، يظل المغرب أكثر الأطراف وضوحًا في موقفه، إذ يقول ما يريد ويفعل ما يعلن، بينما تواصل الجزائر لغة الصمت المراوغ، وتدفع بجبهة أصبحت عبئًا بدل أن تكون ورقة ضغط.
فهل ننتظر لحظة تصطدم فيها لغة الغموض بحائط الحقيقة؟ أم أن منطق "لا غالب ولا مغلوب" سينتصر أخيرًا، ليعود العقل إلى موقع القرار، واليد الممدودة إلى مصافحة فعلية بدل أن تظل معلقة في الهواء؟
.png)
