لا تبكي الأمهات كثيرًا في غزة، ليس لأنهنّ بلغن صلابة الحجر، ليس لأنهن قويات حد الأسطورة، بل لأن الدمع يحتاج ماءً، وقد جفّت عيونهن من الماء، كما جفّت صدورهن من الحليب.
هناك، حيث يُشنق الأطفال ببطء بخيط جوعٍ لا يُرى، يصفّق العالم على "ضبط النفس"، وهناك، في زاوية منسية من الخريطة، يُدفن الرُضّع دون أن يتعلموا كيف يضحكون. جفّت الصدور، في غزة، من الحليب، كما جفّت الأرواح من الرجاء.
ليست هناك زاوية لتوصيف المجازر بغزة، فقد تعب القاموس الإنساني من عدّ القتلى.
الزاوية هي فيما لا نُفكر فيه ونحن نمضغ غداءنا اليومي:
ماذا يعني أن يُمنع الحليب عن رضيع عمره 4 أيام؟ ماذا يعني أن تُقتل أم وهي تحاول طحن الشعير لإرضاع طفلتها؟ ماذا يعني أن يصبح "التمرمغ في القمامة" مشهدًا جماعيًا؟
ليس العار الحقيقي أن يموتوا جوعًا، بل أن نموت نحن أخلاقيًا ونحن نراهم.
تخرج طفلة في غزة، من تحت الأنقاض حافية، تبحث عن أمها. تمشي بين الجثث دون أن تبكي، لأنها لا تعرف البكاء بعد. حين يجدها مسعف بعد ساعات، لا تسأله عن والدتها، بل تقول فقط: هل لديك خبز؟
أن تُولد في غزة اليوم، يعني أن تكون قضية قبل أن تكون كائنًا بشريًا.
يعني أن تموت مرتين: مرة حين تخرج من رحم أمك الجائعة، ومرة حين تُدفن في صمت الأرض التي خذلها العالم.
أصبح المشهد اليوم أشبه بمسرح لذبح بطيء، حيث تتحوّل المعدة الخاوية إلى أداة إعدام، ويصير الخبز أمنية تساوي الحياة. لا شيء يُرعب أكثر من صراخ طفل لم يتعلم النطق بعد، يلتفت يمنة ويسرة كأن أمه ستخرج من تحت الركام، لكن الركام لا يلد سوى الغبار.
ماذا نقول لأنفسنا حين نغسل أيدينا بعد وجبة غداء فاخرة؟
ماذا نقول حين ننظف أفواه أطفالنا ونودعهم بابتسامة؟
هل نقول في سرّنا: "الحمد لله أننا لسنا مثلهم"؟
وهل يكفي الامتنان الذاتي كفعل مقاومة؟
نحن الذين نشاهد صور أطفال غزة ونتنهّد ونُحوّل الصفحة...
نحن الذين نحمل في جيوبنا ذاكرةً قاسية، ونرميها كل يوم في سلة المهملات الرقمية.
هل رأيتم رضيعةً تمصّ إصبعها محاوِلةً إقناع جسدها بأن هذا الإصبع هو حليب أمها؟
هل رأيتم طفلا يموت لأن والده لم يجد ماءً دافئًا لخلطة الحليب الصناعي؟
هل رأيتم أبًا يحفر قبر ابنته بيديه وهو صائم عن الطعام منذ 6 أيام؟
يُدفن الأطفال في غزة بأوزان ريش العصافير، لا لأنهم حديثو الولادة، بل لأن الجوع التهم أجسادهم قبل أن يُهضم حليب الأم.
ما يجري في غزة ليس "حصارًا"، هذه الكلمة ناعمة جدًا، قانونية جدًا، أنيقة وحضارية جدًا.
ما يجري هو قتل بطيء يُدار عبر التحكم باللقمة.
لم تعد الإبادة الحديثة تحتاج غرف غاز، إنه اختراع إسرائيلي حديث!
يكفي أن تُغلق الحدود، أن تُمنع قوافل الأرز والحليب، أن يسكت العالم، أن تَغفو المنظمات في مكاتبها المكيفة. هناك، يُشنق الشعب بخيط رفيع من الجوع، وتُلف أعناق الرضّع بخبز مفقود. والأخطر من القصف؟ هو أن تتحوّل الكارثة إلى أرقام:
2000 شهيد؟3000 طفل؟
جيد، نحن نحب الإحصاءات، فهي تمنحنا مسافة من العار.
من قال إن المجازر تُبكينا؟ المجازر تُخيفنا فقط.
الذي يجب أن يبكينا حتى الانكسار هو هذا الشعور الداخلي بأننا أصبحنا شهودًا بلا مشاعر، أبناء عالم لا يعرف الفرق بين شاشة وصرخة.
ليس العار الحقيقي ما تفعله آلة القتل الصهيوني في غزة، بل ما لا نفعله نحن.
أن نأكل وننام ونخطط لعطل نهاية الأسبوع بينما تموت أم لأن طفلها يبكي جوعًا، هذا هو العار.
ماذا تبقى من الإنسانية؟
تبقى صورة، لأم تُقَبِّل جبهة طفلها المتجمد من الجوع، وتغني له أغنية الوداع:
"نم يا صغيري حين تستفيق، سيكون الجوع قد مات، أو أنت..."
هل يكفي هذا كي نبكي؟
هل نحتاج أن نرى أحشاءهم المكشوفة كي نصدّق أنهم يموتون؟
هل نحتاج أن نُحشر نحن في الخيام حتى نعرف أن الخبز قضية إنسانية؟
أم أننا سنظل نعيش على هامش المجازر، نتبادل الحياد كعملة رائجة، ونمسح أفواه أطفالنا بينما يتعفّن الأطفال هناك في صمت أبدي؟
إن الطفل القادم الذي سيموت جوعًا لن يكون ضحية فقط، بل سيكون شاهدًا على إفلاس ضمير العالم. الذي إذا لم يهتز من تجويع الأطفال، فعلى الأقل، دعونا نشعر بالخجل من مرايانا حين نغسل وجوهنا كل صباح.
.png)
