الثلاثاء 30 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

القصير: كرة القدم بين الاحتواء السياسي والقدرة على التأثير.. بطولة إفريقيا بالمغرب وإمكانات التحول في القرار السياسي الجزائري

القصير: كرة القدم بين الاحتواء السياسي والقدرة على التأثير.. بطولة إفريقيا بالمغرب وإمكانات التحول في القرار السياسي الجزائري عبد الإلاه القصير
سنحاول في هذإ المقال ابراز العلاقة الجدلية بين كرة القدم والسياسة من منظور علم الاجتماع السياسي، مع التركيز على بطولة كأس إفريقيا للأمم المنظمة في المغرب بوصفها حالة(Etude de cas) . تنطلق هده المحاولة من فرضية تقليدية ترى الرياضة مجالًا مفعولا به سياسيًا، لتناقش في المقابل كيف يمكن للتظاهرات الرياضية الكبرى أن تُنتج تأثيرًا سياسيًا رمزيًا غير مباشر، خصوصًا في السياقات الإقليمية المتوترة. وسنحاول ان نبرز كيف أصبحت تساهم التجربة الجماهيرية الجزائرية داخل الفضاء المغربي في تفكيك جزئي للسرديات العدائية الرسمية لحكام الجزائر، وما يترتب عن ذلك من إمكانات ضغط اجتماعي رمزي قد يسبق التاثيرفي القرار السياسي.
 
مقدمة
لطالما اعتُبرت الرياضة، وخصوصًا كرة القدم، مجالًا تابعًا للسياسة، خاضعًا لسلطتها الرمزية ومُستغلًا في خدمة مشاريعها الإيديولوجية وبناء شرعيتها الداخلية والخارجية. غير أن التحولات البنيوية التي عرفتها كرة القدم خلال العقود الأخيرة من حيث التوسع الجماهيري، العولمة الإعلامية، وتزايد شحنتها الرمزية فرضت مراجعة هذا التصور الاختزالي.
 
تُعد بطولة كأس إفريقيا للأمم المنظمة في المغرب حالة دالّة على هذا التحول، حيث تجاوزت التظاهرة بعدها الرياضي لتُحدث تأثيرًا سياسيًا واجتماعيًا غير مباشر، خصوصًا في الحالة الجزائرية، ما يطرح سؤالًا مركزيًا: هل يمكن لكرة القدم أن تتحول من مفعول به سياسيًا إلى فاعل مؤثر في القرار السياسي؟ وهل يمكن أن تشكّل مدخلًا لانفراج سياسي بين المغرب والجزائر؟
 
المنهجية المتبعة
لمعالجة هدا الموضوع سوف نعتمد على منهج نوعي تحليلي، يرتكز على:
1. تحليل سوسيولوجي للخطاب: رصد الخطابات السياسية والإعلامية المرتبطة بالتظاهرة.
2. ملاحظة اجتماعية غير مباشرة: تحليل سلوك الجماهير داخل الفضاأت الرياضية والرقمية.
3. دراسة حالة (Etude de cas): اعتبار بطولة كأس إفريقيا بالمغرب حالة نموذجية لفهم التفاعل بين الرياضة والسياسة في سياق آلعلاقة المتوترة بين المغارب والجزائر.
تجدر الى ان هاته المحاولة لا تهدف إلى قياس التأثير السياسي بشكل سببي مباشر، بل إلى فهم الديناميات الرمزية والاجتماعية التي قد تُنتج أثرًا سياسيًا تراكميًا.
 
إلاطار إلنظري
ينطلق علم الاجتماع السياسي للرياضة من اعتبار المجال الرياضي حقلًا اجتماعيًا يخضع لمنطق الصراع حول الرأسمال الرمزي. (Bourdieu, 1984). فالسلطة السياسية تسعى إلى استثمار الرياضة لتعزيز الهيمنة الرمزية وبناء سرديات وطنية جامعة. من جانبه، يرى (1986 Elias, N. & Dunning,) أن الرياضة تُعد امتدادًا مُقننًا للصراعات الاجتماعية، حيث تُدار التوترات داخل أطر رمزية تُجنب الانفجار المباشر. غير أن هذا المنظور لا يُقصي إمكانية تحوّل الرياضة إلى مجال تأثير عكسي، خاصة عندما تكتسب استقلالية جماهيرية وإعلامية تُضعف قدرة الدولة على التحكم الكامل في معانيها.
 
غير أن هذا التصور، رغم وجاهته، لا يستوعب بالكامل الحالات التي تكتسب فيها الرياضة استقلالية نسبية، تجعلها قادرة على التأثير العكسي على السياسة، ليس عبر القرار، بل عبر الضغط الرمزي والاجتماعي.
 
بطولة إفريقيا بالمغرب كحالة دراسية
أبان تنظيم المغرب لكأس إفريقيا عن قدرة واضحة على توظيف الرياضة كأداة من أدوات القوة الناعمة، عبر بنية تحتية متطورة، وتنظيم احترافي، وخطاب رياضي منفتح قائم على الترحيب والانتماء الإفريقي المشترك. غير أن الأثر الأعمق للتظاهرة لم يكن موجَّهًا فقط إلى الخارج، بل امتد إلى الفضاء المغاربي، وخصوصًا الجزائر. اذ أبرزت التظاهرة الرياضية بعدًا آخر بالغ الأهمية يتمثل في الدور الذي لعبته الجماهير الجزائرية نفسها داخل الفضاء المغربي ودلك رغم المحاولات اليائسة لبعض الاصوات المدسوسة بين الجماهير الجزائرية؛بحيث عبّر عدد كبير من المشجعين الجزائريين عن انبهارهم بمستوى التقدم الذي بلغه المغرب، سواء من حيث جودة البنيات التحتية، حسن التنظيم، أو أسلوب التدبير الأمني واللوجستي للتظاهرة. و اصبح الأكثر دلالة هو التعامل الإيجابي للمغاربة مع الجماهير الجزائرية، حيث شهدت الملاعب والفضاأت العامة حالات التحام رمزي بين مشجعين من البلدين، تجسدت في تشجيع مشترك للمنتخب الجزائري واحتفاء جماعي بالأداء الرياضي، في تجاوز واضح لمنطق القطيعة السياسية. اذ مثلت هذه اللحظات نوعًا من تفريغ التوترات التاريخية عبر قنوات رمزية، استبدلت فيها سرديات العداء بتجربة اجتماعية مباشرة قائمة على التفاعل الإنساني.
 
كما برزعلى مستوى الفضاء الرقمي، موجة لافتة من التدوينات الإيجابية الصادرة عن مشجعين جزائريين تشيد بالمغرب وبسلوك المجتمع المضيف، وهو ما أدى إلى تفكيك جزئي للسرديات العدائية التي راكمتها السلطة السياسية الجزائرية عبر عقود داخل المخيال الجماعي. فقد اصطدمت هذه السرديات بتجربة معيشة تناقضها ميدانيًا، ما أضعف قدرتها على الاستمرار بنفس القوة الرمزية.
 
من منظور علم الاجتماع السياسي، يبرز هنا تحوّل الجمهور من متلقٍ سلبي للخطاب الرسمي إلى فاعل اجتماعي يعيد إنتاج المعنى السياسي للعلاقة مع “الآخر”، خارج وصاية الدولة وأجهزتها الرمزية. الشئ الدي ادى في راينا الى وضع السياسة الجزائرية أمام مفارقة رمزية كبيرة: خطاب رسمي قائم على القطيعة والتوتر، مقابل حدث رياضي ناجح في بلد جار)عدو وهمي(، يحظى بتقدير جماهيري جزائري وإفريقي وعالمي واسع.
 
هذا التناقض أفرز نوعًا من الضغط الرمزي الداخلي، حيث لم يعد من السهل الفصل الصارم بين الرياضة والسياسة أمام رأي عام يتابع ويقارن ويقيّم .وعلى هذا المستوى، يمكننا الاستنتاج ان الرياضة تنتقل من وضعية “المجال المُحتوى سياسيًا” إلى وضعية الفاعل الرمزي المُحرِج و المؤثر في السياسة، خاصة حين يتناقض الواقع المعاش مع الخطاب الرسمي الموجّه للرأي العام.
الا انه يجب ان نوضح بانه لا يمكن الحديث عن تأثير مباشر أو فوري لكرة القدم على القرار السياسي الجزائري، و أن هذآ التأثيرفي تصورنا سيظل تراكميًا وغير مباشر. وهنا يمكن أن تلعب الرياضة دورًا تمهيديًا في تخفيف التوترات السياسية، دون أن تكون بديلًا عن الحلول الدبلوماسية. وفي الحالة المغربية–الجزائرية، لا يمكن في تقديرنا لكرة القدم أن تحل جذور الخلاف، لكنها قادرة على:
• إرباك الخطاب السياسي آلجزائري القائم على العداء الدائم للمغرب،
• فتح نقاشات داخلية في الجزائر حول كلفة استمرارية هدآ العداء للمغرب ،
• تآكل الشرعية الرمزية لبعض السرديات الجزائريةة الرسمية أمام التجربة الاجتماعية الحية.
• إعادة إنسنة العلاقة بين الشعبين الجزائري والمغربي،
• كسر منطق العداء المطلق،و
• خلق مناخ رمزي ضاغط من الأسفل قد يسبق القرار السياسي.
 
وبهذا المعنى، تتحول كرة القدم إلى عامل تآكل بطيء للخطاب السياسي المتصلب، لا عبر المواجهة، بل عبر المقارنة والاحتكاك الاجتماعي.
 
خلاصة
تُظهر بطولة كأس افريقيا المنظمة حالياب بالمغرب أن العلاقة بين كرة القدم والسياسة لم تعد علاقة تبعية مطلقة، بل علاقة تفاعل معقّد تتداخل فيها الدولة، المجتمع، والرمز. ففي بعض السياقات، تتحول الرياضة من أداة في يد السياسة إلى فاعل اجتماعي رمزي يفرض أسئلة محرجة على القرار السياسي.

الحالة الجزائرية تكشف بوضوح هذا التحول، حيث أسهمت التجربة الجماهيرية المباشرة في تقويض جزء من السرديات العدائية المتراكمة، ما يجعل كرة القدم رافعة ناعمة محتملة لإعادة التفكير في منطق القطيعة وفتح أفق انفراج مستقبلي بين المغرب والجزائر.
 
مراجع نظرية مختصرة
Bourdieu, P. (1984). Questions de sociologie. Paris: Minuit.
Bourdieu, P. (1991). Language and symbolic power. Cambridge: Polity Press.
Elias, N., & Dunning, E. (1986). Quest for excitement: Sport and the civilizing process. Oxford: Blackwell.
Hoberman, J. (1984). Sport and political ideology. Austin: University of Texas Press.
Levermore, R. (2008). Sport and international relations. Sport in Society, 11(2–3), 271–286.
Sugden, J., & Tomlinson, A. (2017). Football, corruption and lies. London: Routledge.