الاثنين 29 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

محمد الغيث ماء العينين : بين مطرقة واشنطن وسندان مجلس الأمن.. الجزائر والبوليساريو في لحظة الفرز الكبرى

محمد الغيث ماء العينين : بين مطرقة واشنطن وسندان مجلس الأمن.. الجزائر والبوليساريو في لحظة الفرز الكبرى محمد الغيث ماء العينين 
لم تكن سنة 2025 سنة عادية في مسار قضية الصحراء المغربية، بل شكّلت لحظة فاصلة يمكن قراءتها بوصفها سنة انكشاف المآزق المؤجَّلة، لا مأزق البوليساريو وحدها، بل أيضًا مأزق الجزائر، ومأزق المقاربات القديمة التي استنفدت كل وظائفها السياسية والقانونية.
هذا التحول لا يمكن فهمه دون العودة إلى لحظة تاريخية مفصلية كثيرًا ما جرى القفز عليها: لحظة 2004–2005، حين اعترف الأمين العام للأمم المتحدة صراحة بأن مسار التسوية بلغ طريقًا مسدودًا بسبب فشل مخطط تحديد الهوية، واستحالة تنظيم استفتاء قابل للتنفيذ. آنذاك، لم يكن الانسداد مغربيًا ولا جزائريًا، بل مأزقًا أمميًا حقيقيًا.
في مواجهة هذا الانسداد، جاء خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2005 ليشكّل منعطفًا استراتيجيًا حاسمًا. لم يكن الخطاب ردّ فعل ظرفيًا، ولا إعلان انتصار، بل مبادرة إنقاذ سياسية: إنقاذ للأمم المتحدة من مأزق أدوات لم تعد صالحة، وإنقاذ للنزاع من جمود لا أفق له. ومنذ تلك اللحظة، طرح المغرب الحكم الذاتي كمقترح سيادي مغربي، يوفّر مخرجًا واقعيًا للأمم المتحدة وللمنطقة ككل.
بعد نحو عشرين سنة، تعود فكرة “المأزق” إلى الواجهة، لكن بوجه مختلف. لم تعد الأمم المتحدة هي التي تعيش الانسداد، بل الفاعلون الذين راهنوا على تعطيل مخرجات هذا المسار أو تأجيله.
سنة 2025 افتُتحت بتحرك غير مسبوق داخل الكونغرس الأمريكي، حيث طُرح بشكل جدي احتمال تصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية. وهذا التطور لم يكن تقنيًا ولا عابرًا، بل عكس تحوّلًا عميقًا في زاوية النظر الأمريكية: من التعامل مع الجبهة كفاعل سياسي، إلى مساءلتها ككيان مسلح تُثار حوله شبهات أمنية عابرة للحدود.
واختُتمت السنة تقريبًا بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي لم يترك أي مجال للالتباس: التفاوض لا يمكن أن يتم إلا داخل سقف واحد، هو الحكم الذاتي، باعتباره الحل الجدي والواقعي. وهكذا، وُضعت البوليساريو أمام معادلة غير مسبوقة في حدّتها:
إما القبول بالتفاوض داخل هذا السقف،
أو الاستمرار في الرفض، بما يفتح الباب أمام مسارات قانونية وأمنية قد تُخرجها نهائيًا من أي أفق تفاوضي أممي.
وفي هذا السياق، يصبح من الضروري توضيح أمر جوهري: فإن تصنيف جبهة البوليساريو من قبل الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية – إن حصل – لن تكون له تبعات على قيادات الجبهة وأعضائها فحسب، بل سيتجاوز ذلك ليشمل البيئة الحاضنة والداعمة لها. وفي هذه الحالة، ستجد الجزائر نفسها في وضعية دولة توفّر ملاذًا آمنًا لتنظيم مصنّف إرهابيًا، وتدعمه سياسيًا وماليًا، وهو ما يضعها، وفق المقاربة الأمريكية، في خانة الدول الداعمة للإرهاب، بما يحمله ذلك من كلفة دبلوماسية وأمنية واقتصادية مباشرة.
غير أن المأزق الجزائري أعمق من ملف البوليساريو وحده. فهو مأزق دولة تأسّس كيانها السياسي على منطق الحدود الموروثة عن الاستعمار، في لحظة دولية بدأ فيها هذا المنطق نفسه يتآكل. تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول إشكالية هذه الحدود لم يكن تفصيلاً عابرًا، بل جاء منسجمًا مع تحولات أوسع في النظام الدولي، حيث تعود فكرة الحدود الحقيقية والشرعيات التاريخية والواقعية إلى الواجهة، على حساب خطوط رسمها الاستعمار بمنطق إداري هشّ لم يعد محصّنًا كما كان.
والمفارقة أن الجزائر، التي حاولت طيلة عقود تهديد الوحدة الترابية للمغرب، تجد نفسها اليوم أمام منطق معاكس: المغرب ثبّت وحدته، وفرض سردية الحدود الحقيقية، بينما بدأت الأسئلة تُطرح – صراحة أو ضمنًا – حول هشاشة الكيانات التي بُنيت حصريًا على إرث استعماري فقد الكثير من مشروعيته.
في هذا السياق بالذات، تكتسب اليد الممدودة التي عبّر عنها جلالة الملك في خطاب 31 أكتوبر معناها الاستراتيجي الكامل. فهي ليست مبادرة مجاملة، ولا تنازلًا سياسيًا، بل عرضًا عقلانيًا للخروج من مأزق مزدوج: مأزق داخلي تعيشه الجزائر على مستوى الشرعية والانسجام، ومأزق خارجي يتفاقم في ظل تحولات النظام الدولي.
وهذا العرض لا يهم الجزائر وحدها، بل يهم أيضًا قيادات جبهة البوليساريو. فهذه القيادات مطالَبة اليوم بقراءة اللحظة بوعي تاريخي: في حال تم تصنيف الجبهة أمريكيًا كمنظمة إرهابية، فمن شبه المؤكد أن الجزائر ستتخلّى عنها، لأن الدول لا تُغامر بمصالحها الاستراتيجية من أجل تنظيم معزول. وفي تلك اللحظة، ستكون البوليساريو قد أضاعت فرصة تاريخية لتصحيح مسار خمسين سنة من الأخطاء.
القبول اليوم بـ سلام الشجعان لا يعني الهزيمة، بل يعني تحمّل المسؤولية التاريخية، والتحوّل من عائق أمام الحل إلى جسر للحل: جسر يسهّل عودة الصحراويين المغاربة من مخيمات تندوف، ويُسهم في جبر الضرر المعنوي والسياسي الذي خلّفته قرارات قيادية أدخلت أجيالًا كاملة في مأزق إنساني وسياسي طويل.
لكن هذه اللحظة ليست لحظة خطابات ولا مناورات، بل لحظة فرز قاسٍ. العالم لم يعد في طور البحث عن حل، بل في طور تنزيل حلٍّ توافقت عليه القوى المؤثرة. المغرب لم يطرح مقترحًا فحسب، بل فرض منطقه، وها هو النظام الدولي يعيد ترتيب أوراقه حول هذا المنطق. ومن يتخلّف اليوم عن ركوب مسار الحل، لن يُصنَّف فقط في خانة الرافضين، بل في خانة المُعرقلين.
في هذا السياق، فإن المخاطر لم تعد مؤجلة: قيادات البوليساريو مهددة بأن تنتقل من موقع الخصم السياسي إلى موقع الملاحقة القانونية كتنظيم إرهابي، والجزائر نفسها تجد استقرارها ومكانتها على المحك، في عالم لم يعد يتسامح مع النزاعات المفتوحة ولا مع المناطق الرمادية.
هذه ليست نهاية نزاع فقط، بل إغلاق صفحة كاملة من التاريخ. ومن لم يفهم أن العالم قد طواها فعليًا، لن يخسر موقعه في كتب التاريخ فحسب، بل قد يخسره – وبقسوة – في الحاضر الذي يُعاد تشكيله الآن، دون انتظار أحد.