يواجه النموذج الطاقي المغربي وضعية معقدة تُظهر بوضوح أن الزمن لم يعد في صالح المقاربة التقليدية المعتمدة على الاستيراد والطاقات الأحفورية او البديلة المكلفة. فالاقتصاد الوطني يتحمّل كلفة كهرباء تُعد من بين الأعلى في المنطقة، ما ينعكس مباشرة على تنافسية النسيج الإنتاجي وقدرة المقاولات على مواجهة المنافسة داخلياً وخارجياً. ومع محدودية الإنتاج الوطني من الغاز وغياب مصادر طاقة مستقرة ومنخفضة الكلفة، أصبح الأثر الاقتصادي لارتفاع الأسعار أكبر من قدرة القطاعات الإنتاجية على امتصاصه، في وقت تتجه فيه الاقتصادات الصاعدة إلى بناء نماذج طاقية أكثر استقلالية واستدامة. في هذا السياق، يطرح سؤال الطاقة النووية نفسه بقوة: هل تأخّر المغرب فعلاً في دخول هذا المجال، وهل ما زال بالإمكان استدراك هذا التأخر قبل أن يفقد الاقتصاد الوطني موقعه في سلاسل الإنتاج العالمية؟
من منظور اقتصادي بحت، يظهر التأخر واضحاً بالنظر إلى وتيرة التطور التي عرفتها الطاقة النووية خلال العقدين الماضيين. دول عربية مثل الإمارات ومصر سبقت المغرب بخطوات حاسمة، معتمدة على المفاعلات الكورية والروسية لتحقيق أمن طاقي مستقر ورخيص على مدى عقود. هذه التجارب لم تكن مجرد مشاريع تقنية، بل خيارات اقتصادية تضمن طاقة مستدامة ومنخفضة الكلفة وقابلة للتوقع، وهو ما جعلها عوامل جذب لصناعات كبرى تحتاج طاقة وفيرة وبأسعار ثابتة. هذا العنصر بالذات يمثل اليوم تحدياً أساسياً أمام المغرب، حيث تشترط الاستثمارات الضخمة—من الصناعات المعدنية إلى الهيدروجين الأخضر، ومن الصناعات الكيماوية إلى مراكز البيانات—وجود طاقة مستقرة ورخيصة كشرط أولي قبل اليد العاملة والتحفيزات الضريبية. ومع اتساع الفارق بين تكلفة الطاقة محلياً وبين تكلفة الطاقة في الدول المنافسة، أصبح اتخاذ قرار استراتيجي في هذا الباب مسألة اقتصادية وليست تكنولوجية.
ومع ذلك، فإن التأخر لا يعني غياب الإمكانيات. فالمغرب ليس خارج السباق، إذ يمتلك إطاراً مؤسساتياً متقدماً متمثلاً في الوكالة المغربية للطاقة الذرية وخبرة تراكمية في مفاعل “معمورة”. كما يمتلك أحد أقوى الفاعلين الصناعيين في إفريقيا والعالم العربي: المكتب الشريف للفوسفاط. هنا يظهر سيناريو استراتيجي مهم يمكن أن يعيد رسم الخريطة الطاقية الوطنية: إنشاء فرع متخصص في الصناعة النووية داخل منظومة OCP. هذا الخيار يستند إلى منطق اقتصادي واضح، إذ يشكل الفوسفاط صناعة تعتمد بشكل كبير على الطاقة، ومصدر طاقة نووية رخيصة وثابتة سيمنح المجمع قدرة تنافسية غير مسبوقة على المستوى العالمي، عبر خفض تكاليف الإنتاج وتأمين استقرار طويل الأمد لأسعار الكهرباء. علاوة على ذلك، يتوفر OCP على قدرة مالية وتنظيمية تجعله مؤهلاً لتدبير مشروع بهذا الحجم، وعلى شبكة شراكات دولية مفتوحة تجعل التعاقد على تكنولوجيا كورية أو أمريكية—وخاصة المفاعلات الصغيرة SMR—خياراً قابلاً للتنفيذ خلال فترة زمنية معقولة.
إن دخول المغرب المجال النووي لن ينعكس فقط على قطاع الطاقة، بل سيعيد تشكيل معادلة النمو الاقتصادي بأكملها. محطة واحدة كفيلة بخفض هامشي مهم من فاتورة الواردات الطاقية، وتثبيت أسعار الكهرباء لعقود، وتحسين تنافسية المقاولات، وتعزيز قدرة البلاد على جذب الاستثمار الأجنبي في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. الأثر الكلي سيكون واضحاً على الميزان التجاري، وعلى الصناعة الوطنية، وعلى التموقع الجيواقتصادي للمغرب خلال السنوات المقبلة.
لم يعد السؤال يتعلق بمدى حاجة المغرب للطاقة النووية، بل يتعلق بمدى قدرة الاقتصاد الوطني على تحمل كلفة الاستمرار بدونها. في عالم يتغير بسرعة ويتجه نحو نماذج طاقية أكثر استقلالية، يصبح الاستثمار في الطاقة النووية ليس فقط قراراً استراتيجياً، بل ضرورة اقتصادية لضمان استدامة النمو وتعزيز مكانة المغرب في الاقتصاد العالمي. الزمن مناسب، التكنولوجيا متاحة، والفاعلون الوطنيون قادرون. ويبقى المطلوب اتخاذ القرار قبل أن يصبح التأخر مكلفاً أكثر مما هو عليه اليوم.