لم تعد قضية المتصرفين التربويين المقصيين من الترقيات مجرد ملف إداري عالق، بل تحولت إلى عنوان صارخ لاختلال عميق في تدبير المسار المهني داخل المنظومة التعليمية. فمنذ سنة 2021، وجحافل من الأطر الإدارية التي أفنت سنوات من عمرها في خدمة المدرسة العمومية تجد نفسها معلقة في فراغ من الظلم الوظيفي، بعد أن حرمت من حقها الطبيعي والمستحق في الترقي بالاختيار، رغم وضوح النصوص التنظيمية، ورغم استيفائها لشروط العتبة التي رقّي بها زملاء من نفس الإطار وبنفس الصفة.
المعضلة ليست في الأرقام ولا في النقاط؛ المعضلة في اجتهاد إداري منفلت، خلق داخل نفس الإطار الوظيفي تمييزا ظالما غريبا تحت تسمية "إسناد"، رغم أن المذكرات الوزارية المنظمة للترقية بالاختيار وكذا النظام الأساسي لموظفي الوزارة المكلفة بالتربية الوطنية مرسوم رقم 2.24.140، لم تتضمن قط أي سند قانوني يجيز هذا التفريق المصطنع. هكذا وجد قدماء الإدارة التربوية أنفسهم خارج لوائح الترقي، رغم أنهم خضعوا لنفس التكوين، وبنفس المراكز الجهوية، وتحت إشراف نفس الأطر، وبمذكرات وزارية لها نفس القوة القانونية.
وما زاد الطين بلة، هو القرصنة الصامتة لسنوات من الأقدمية، والاقتطاعات غير المبررة التي مست رواتب المتصرفين التربويين بعد تغيير الإطار، والتي جرى تبريرها بتأويلات إدارية لا تصمد أمام القراءة السليمة للمادة 89 بالمرسوم 2.24.140 والمرسوم 2.92.264. بل إن الوزارة اختارت الهروب إلى الأمام بإحالة الملف على الأكاديميات تحت غطاء “تعويضات عن التنقل”، في تجاهل واضح لمقتضيات التعويض التكميلي المنصوص عليه قانونا، وكأن الاقتطاعات الجائرة التي طالت أجور المتصرف التربوي ضحية الظلم والتعسف يمكن أن يعوض بتعويضات تنقل عن حق مالي ثابت ومؤطر بنصوص تنظيمية (مرسومين).
الأكثر مرارة هو أن فئة المتصرفين التربويين المتضررين تجد نفسها اليوم أمام مفارقة لا تستقيم مع الدستور ولا مع روح العدالة: هناك أحكام قضائية نهائية صادرة عن محاكم إدارية مختلفة تقضي بترقية المتضررين بأثر إداري ومالي منذ 2021، ومع ذلك ما يزال التنفيذ معلقا، رغم أن الأحكام الإدارية واجبة النفاذ بقوة القانون وأن عدم تنفيذها يهز الثقة في المرفق العمومي وفي دولة الحق والقانون.
لقد سبق للنقابات التعليمية الخمس أن توصلت مع الوزارة إلى اتفاق مؤرخ في 9 يناير 2025، يقضي بتسوية وضعية المتصرفين التربويين باعتماد نفس العتبة المعمول بها، وهو التزام مكتوب وملزم، ولكنه اليوم يقف عند حدود الورق، بينما الأطر المتضررة تعيش مرارة الانتظار ووقع الظلم الوظيفي، وتتناسل داخل محيطها الإداري أسئلة تنخر الثقة ولا تجد جوابا سوى صمت غير مفهوم.
مطلب هذه الفئة ليس امتيازا ولا ترفا، بل هو استرجاع لحقٍ ثابت: ترقية مستحقة وفق النقاط القانونية (95 لسنـة 2021، و96 لسنتي 2022 و2023)، استرجاع الاقتطاعات التي أُخذت بغير وجه حق، ومنح الأقدمية الجزافية التي حرموا منها منذ 2013 أسوة بزملاء أقل أقدمية منهم. إنها مطالب مشروعة تسندها نصوص واضحة، وأحكام نهائية، ومبدأ دستوري جوهري: لا تمييز بين المنتمين لنفس الإطار الوظيفي.
إنصاف المتصرفين التربويين لم يعد خيارا ظرفيا يرتبط بلجان؛ إنه اختبار حقيقي لمدى احترام المنظومة التعليمية لمرجعياتها القانونية ولروح الدستور الذي يعلو فوق الجميع. لا سيما أن خيارات دولة الحق والقانون القائمة على العدالة والانصاف لا يمكن أن تعبت بها لجان إدارية، ولمديرية الملزم لها تدبير الموارد البشرية بالشفافية ( التي نشر لوائح ترقية المتصرفين التربويين سنة 2023 مبثورة التنقيط) وهو ما راكم أخطاء الإدارة بوزارة التربية الوطنية الفروض فيها الالتزام بتطبيق القانون، وما أفرزته قرارات الاقصاء من جروح اجتماعية ونفسية عميقة في صفوف أسر الضحايا.
لقد حان الوقت لوضع حد لهذا الحيف، وتفعيل الأحكام القضائية، وتنزيل الاتفاقات السابقة، وتصحيح الوضعيات الإدارية والمالية بشكل فوري وشامل. فكرامة الأطر التربوية ليست بندا تفاوضيا، بل هي أساس بناء الثقة داخل المدرسة العمومية، التي لن تستقيم أو تنهض إلا حين يشعر كل موظف فيها أنه يقف على أرض العدل، لا على رمال التأويلات الإدارية المتقلبة.
إنصاف المتصرفين التربويين اليوم… هو خطوة ضرورية لترميم ما تبقى من الثقة، ولإعادة الاعتبار لفئة حملت المدرسة العمومية على أكتافها، وتستحق أن يُرد لها حقها كاملا غير منقوص.