Friday 21 November 2025
كتاب الرأي

الحسين بكار السباعي: وساطة على حافة التحول.. بين سقوط وهم الحياد ونهاية النزاع المفتعل

الحسين بكار السباعي: وساطة على حافة التحول.. بين سقوط وهم الحياد ونهاية النزاع المفتعل الحسين بكار السباعي
إن عرض الوساطة في حد ذاته يمثل إشارة إيجابية تعكس نضج متسارع في التعاطي الدولي مع نزاع الصحراء المغربية، غير أن هذا التطور لا يكفي لتجاوز حقيقة راسخة في علم العلاقات الدولية، وهي أن كل وساطة ناجحة مشروطة بركنين أساسيين ، أولهما حياد صارم، وثانيهما وجود علاقة متوازنة مع جميع الأطراف. وإذا أسقطنا هذه القاعدة على الحالة نزاع الصحراء المغربية المفتعل، يتبدى بجلاء سقوط أي إدعاء بوساطة طرف كان وما يزال جزء من جوهر المشكلة، ليس فقط بالنظر من باب التحليل السياسي فحسب، بل من خلال شهادات وخبرات من قلب الدبلوماسية الدولية.
 
لقد سبق للمبعوث الأممي الأسبق بيتر فان فالسوم أن أعلن في جلسة مغلقة للجنة الأربعة، ثم عاد وكرر مضمونها لاحقا، بأن المشكل الحقيقي ليس بين المغرب و بوليساريو فقط، بل بين المغرب والجزائر، وهو تصريح هز الخطاب التقليدي الذي حاول لسنوات إخفاء دور الطرف الإقليمي في صناعة الأزمة. كما أن الدبلوماسي الأمريكي المعروف جون بولتون، رغم إختلافه العميق مع الطرح المغربي، لم يتردد في الإقرار، و بصيغ مختلف، بأن الجزائر تتحكم في القرار النهائي للجبهة، وأن أي حل لا يمر عبرها لن يكتب له النجاح. هذه المواقف لم تكن معزولة، بل تكررت بصيغ متعددة على ألسنة خبراء أمميين وأكاديميين في معاهد السياسة الخارجية بباريس وواشنطن ومدريد.

وعلى المستوى التحليل المقارن، فكثيرا ما يستشهد في الأدبيات الدبلوماسية بحالات مشابهة، مثل فشل وساطة إريتريا في أزمة شرق السودان بسبب انحيازها لفصائل معينة، أو عدم نجاح وساطة أوغندا في نزاع البحيرات الكبرى بسبب تورطها المباشر في بنية الصراع. وقد خلصت دراسة لمركز "تشاتام هاوس" البريطاني إلى أن “الدولة التي ترتبط عضويا بأحد أطراف النزاع تفقد قدرتها على لعب دور الوسيط، حتى لو امتلكت النية السياسية لذلك”، وهو ما ينطبق تماما على الحالة الجزائرية في ملف الصحراء.
 
إن الطرف الذي إحتضن مشروع الإنفصال منذ لحظة ميلاده، وظل لأكثر من خمسة عقود يموله ويوجهه ويؤمن له الغطاء السياسي والدبلوماسي، لا يمكنه منطقيا ولا سياسيا أن يرتدي فجأة عباءة الوسيط المحايد. فكيف يمكن لمن كان طرفا أصيلا في صناعة الأزمة أن يتحول إلى طرف يسعى إلى حلها؟ سؤال طرحه قبل سنوات الخبير الأمريكي في النزاعات الدولية وليام زارتمان، والذي لا يزال اليوم مفتوح ويحتاج الى جواب مقنع ، بل أنه تساؤل يزداد راهنية مع التحولات الدولية المتسارعة.

والمفارقة في معرض مقالنا، أن محاولة تقديم هذا الطرف كوسيط تأتي في لحظة تشهد فيها الساحة الدولية تحولا واضحا في المواقف، حيث بات المقترح المغربي للحكم الذاتي يحظى بدعم متنام من قوى دولية مؤثرة، بل أصبحت دول كانت تعرف بإتساع هوامشها الرمادية تعبر بشكل صريح عن دعمها للحل الواقعي تحت السيادة المغربية. وهذا التحول الذي تسارع بعد 31 أكتوبر 2025، أفرز قناعة لدى كثير من الخبراء بأن نزاع الصحراء يقترب من لحظة الحسم، وأن استمرار الوضع القائم ما عاد يناسب حسابات الإستقرار الإقليمي ولا المصالح الدولية.
 
بينما تتحدث مراكز التفكير الأوروبية عن ضرورة "إغلاق آخر بؤرة نزاع مفتعل في شمال إفريقيا"، يذهب دبلوماسيون سابقون في الأمم المتحدة إلى أن الجزائر تجد نفسها أمام منعطف تاريخي، وهو إما الإعتراف بمسؤولية دورها وتأطيره ضمن مسار الحل، أو الإستمرار في إنكار الواقع بما ينتج عنه من عزل دبلوماسي متزايد. وقد أكد مسؤول سابق في الخارجية الفرنسية أن “المنطقة لن تتحمل نصف قرن آخر من الجمود، وأن الحل الواقعي يمر عبر تحرر الجزائر من إرث الحرب الباردة”.

 ما نقف عليه اليوم وبحزم، أننا  لسنا أمام مجرد حراك دبلوماسي عابر، بل محطة مفصلية تشير إلى أن زمن المراوغة باسم الوساطة قد إنتهى، وأن المجتمع الدولي يتجه بثقة نحو دعم حل يقوم على الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية بإعتباره الإطار الوحيد القابل للتطبيق. وهنا يسائل التاريخ كل طرف عن موقعه الحقيقي في معادلة السلم والإستقرار، وعن مدى إستعداده للإنتقال من منطق التصعيد إلى منطق الحل، ومن رعاية الإنقسام إلى المساهمة في بناء إندماج مغاربي طال إنتظاره.
 
ختاما،  انطلق قطار الحل النهائي، وما عاد بإمكان أي طرف، مهما حاول المناورة، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فالصحراء مغربية بحكم القانون والتاريخ والجغرافيا، وبحكم ميزان المواقف الدولية الجديدة، وما تبقى الآن هو أن يعترف كل طرف بمسؤوليته داخل هذه اللحظة المفصلية، لأن النزاع الذي صنع خارج الشرعية والتاريخ، حان الوقت ليخرج منهما.
 
 
د/الحسين بكار السباعي  محلل سياسي وخبير إستراتيجي