Saturday 18 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: الصحراء.. من الأيديولوجيا إلى الجيوبوليتيك

عبد الرفيع حمضي: الصحراء.. من الأيديولوجيا إلى الجيوبوليتيك
يبدو أن قضية الصحراء المغربية تدخل اليوم مرحلة جديدة من تاريخها الطويل، مع اقتراب مجلس الأمن من مناقشة تجديد ولاية البعثة الأممية  ومتابعة المستجدات المرتبطة بهذا الملف. 
في هذا السياق، جاء تصريح  مسعد بولس، المستشار الخاص  للرئيس  الأمريكي، ليؤكد أن الولايات المتحدة تُعوّل على “حكمة جلالة الملك ونبله” وعلى “التعاون مع الدول الإفريقية، بما في ذلك الجزائر”، في إشارة إلى أن منطق الحوار والمصالح المشتركة بدأ يطغى على لغة الصراع والقطيعة.
لقد نشأ نزاع الصحراء في سياق الحرب الباردة، حين كانت الإيديولوجيا هي الإطار الحاكم للعلاقات الدولية. الجزائر، المتأثرة آنذاك بخطاب “تصفية الاستعمار”، سعت إلى تحويل هذا الملف إلى واجهةٍ رمزية لصراع النفوذ الإقليمي، بينما كان المغرب يدافع عن وحدة ترابه الوطني في مواجهة هذا المنظور التجزيئي.
أما اليوم، فقد تغيّر العالم. لم يعد ميزان القوة يُقاس بخطابات المرحلة بل بمن يمتلك القدرة على تأمين حدوده، وتنمية أقاليمه، وخلق الشراكات الجيو-اقتصادية. لقد انتقلنا من زمن العلاقات الدولية إلى زمن الجيوبوليتيك، أي منطق الجغرافيا المتحركة والمصالح المتقاطعة، حيث تتحكم الطاقة والممرات البحرية وسلاسل الإمداد في موازين النفوذ أكثر مما تفعل الشعارات السياسية. وفي هذا المنظور الجديد، تُصبح الصحراء المغربية موقعًا استراتيجيًا لا غنى عنه في معادلة الأطلسي والساحل والصحراء الكبرى. إنها بالاضافة إلى كونها قضية سيادة، فهي أيضًا ركيزة توازن إقليمي يربط إفريقيا الغربية بأوروبا وبالعالم الأطلسي.
منذ أن قدم المغرب سنة 2007 مقترحه للحكم الذاتي كحلٍّ سياسي وواقعي ودائم، تغيّر موقف المجتمع الدولي تدريجيًا. فقد تبنت قرارات مجلس الأمن لغة جديدة تشدد على الواقعية والتوافق، وأكدت أن الحل يجب أن يكون عمليًا وذا مصداقية. الولايات المتحدة، من جهتها، كرّست هذا التحول باعترافها الصريح بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية سنة 2020، لتؤسس بذلك لمقاربة تقوم على الاستقرار والتنمية بدل الغموض والمناورات. تصريح المستشار الأمريكي الأخير لا يُقرأ فقط في بعده الدبلوماسي، بل في عمقه الاستراتيجي: فواشنطن ترى في المغرب شريكًا موثوقًا في محيطٍ مضطرب، وتُدرك أن أي حل خارج إطار الحكم الذاتي سيُبقي المنطقة رهينة الفوضى والتجاذبات.
وفي خضم هذا التحول الدولي، تحضر الذكرى الخمسون للمسيرة الخضراء كرمزٍ متجدّد للذكاء السياسي المغربي. فالمسيرة، لم تكن مجرد حدثٍ تاريخي، بل منعطفًا استراتيجيًا نقل الصراع من الميدان العسكري إلى الميدان السياسي، ومن الإيديولوجيا إلى الشرعية الشعبية. لقد كانت أول تجسيد مغربي لمفهوم “القوة الهادئة” التي تعود اليوم لتُشكّل أحد مفاتيح الجيوبوليتيك المغربي المعاصر: قوة تستمد شرعيتها من التاريخ، وتُعبّر عن نفسها عبر التنمية، لا عبر العنف أو التصعيد.
وهذا هو جوهر التحول الجيوبوليتيكي في القضية التي لم تعد الصحراء موضوع نزاع، بل أصبحت رأسمالًا جغرافيًا واستراتيجيًا للمغرب ولمحيطه الإفريقي، وممرًا ضروريًا لمستقبل الأمن والتنمية في القارة.
كما ان الأمر لم يعد مجرد ملف  أممي مؤجل، بل بصراع رؤى ،رؤيةٌ مغربية تستند إلى التاريخ والمستقبل، ورؤيةٌ جزائرية ما تزال أسيرة منطق الحرب الباردة. 
وبالتالي ففي عالمٍ يحكمه منطق الجيوبوليتيك، لا مكان للشعارات العقيمة، بل لمن يصنع الجغرافيا من جديد. وهنا تكمن اصالة  المقاربة المغربية التي حولت المسيرة الخضراء من حدثٍ في التاريخ إلى فلسفةٍ في السياسة، ومن رمزيةٍ وطنية إلى قوة جيو-استراتيجية تعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة المغاربية والإفريقية على حدٍّ سواء.