سمعت تلاوة للقرآن الكريم من على هاتفي للتو؛ قبل قليل كنت على المنبر أخطب خطبة الجمعة، وعدت إلى البيت وجلست أنتظر قصعة الكسكس؛ غير أن صوت المقرئ محمد الزياني سافر بي عبر الزمن إلى مدينتي طانطان، إلى زنقة مولاي إدريس بشارع الحسن الثاني، في حي طانطان الأحمر. لقد جذبتني نوستالجيا سأرويها الآن.الحدّ الذي أذكره:
المدينة: طانطان
التاريخ: قد يكون 1983
الموسم: رمضان
الوقت: صيف قائظ
الوالد رحمه الله في قيلولة بعد الظهر.
المسجلة «سانيو Sanyo» ينبعث منها هذا الصوت الساحر؛ سورة الأنفال بالضبط... أعرف بعدها أنه المقرئ محمد الزياني.
رائحة الإسفلت المنبعثة من شارع الحسن الثاني، حيث الشاحنات تصب القار السائل على الأرض.
أنا ملقى على حصير قديم هناك بعيدًا عن الوالد؛ تارة أسمع شخيره، وتارة ألتقط تلاوة المقرئ.
الوالدة تعزل الشوائب غير الصالحة من ربطتي «قزبر وكرافص» استعدادًا لتحضير حريرة الإفطار.
قطة باسطة ذراعيها؛ نصف جسدها تحت أشعة الشمس، والنصف الآخر يستمتع بالظلّ الظليل.
صوت نقط الماء يتقاطر في «سطل» بلا يد؛ تنزل القطرات بفواصل زمنية مسترخية بسبب عطل في الصنبور. إن أحكمتَ إغلاقه امتنع وسرَّب الماء كأنه مفتوح، فنغلقه بلطف وبالحيلة إلى مستوى يسمح للقطرات بالحرية؛ صنبور لا يقبل الفتح ولا الغلق.
ذبابات تستعرض مهاراتها في الطيران، مصدرة طنينًا متموجًا يعلو ويخفت؛ كأنها في استعراض احتفالي. تأبى الابتعاد رغم تلويحي باليد تهديدًا، يبدو أنها "صبية ذباب" تعتبر التهديد نوعًا من التسلية، وتقرأ تلويحاتي على أنها انخراط معها في ألعابها.طرق خفيف على الباب... يبدو أن ابن الجيران يطلب من والدتي قليلًا من الطماطم المصبّرة لإكمال عدة الإفطار.
صورة الملك محمد الخامس تؤثث الجدار الشرقي لـ"المصرية" أي بيت الضيافة؛ جدار مطليّ بالجير الأبيض، تساقط بعضه كقطع من الآيس كريم الرقيقة.
في الجدار الغربي مسمار يتيم تعلق عليه الوالدة سبحتها، وأحيانًا بعض المفاتيح.
في الزاوية هناك صينية إعداد الشاي مع زنبيل الشاي وعلبة السكر، يسترهم عن النظر منديل قديم هو في الأصل قطعة من كيس دقيق مكتوب عليه بعض الحروف اللاتينية، أعتقد أنها مرتبة هكذا: USA.يبدو أن الذبابات قد أزعجت القطة فقفزت متدمّرة محتجة، وغيرت المكان؛ مشيتها تدل على أن الذبابات تجاوزن حدود اللياقة والأدب.
لا يزال وقت أذان العصر بعيدًا. في زاوية بيت الوالد، فوق "البيفي" وهو صندوق حديدي طوله يتجاوز المتر والنصف، يضع فيه الوالد أشياءه الثمينة مثل كناش الحالة المدنية وبعض صوره الفوتوغرافية وهو يرعى الغنم بالأبيض والأسود.تتمركز ساعة مزعجة في هذا الوقت من اليوم، إنها ساعة الدجاجة وصغارها؛ يظل رأسها يعلو وينخفض كأنها "تلتقط الحب"، لا هي التقطت الحب، ولا المؤذن محمد سالم رفع أذان العصر.
أجمل ما يكسر سكون الانتظار ورتابته هو مديح نبوي باللهجة الحسانية ترفعه الوالدة وهي تفرك في «البانيو» باستعمال «الفراكة الخشبية» بدلتي المدرسية الزرقاء المزينة بصورة شمس مشرقة صفراء على جانب الصدر الأيسر؛ كانت من ثوب النيلون الحارق في الصيف، وكانت إجبارية، لكنها كانت تنشر المساواة بين التلاميذ في المدرسة.كانت أبيات المديح تبدأ بقولها: «صلى الله على محمد، كَدَّ السَّاكت ولمتكلم، كَدْ نجوم الليل مظلم»، أي: اللهم صلّ على محمد عدد الساكتين والمتكلمين، وعدد نجوم الليل المظلم.كان صوتها مطربًا... رحم الله زمن "الفراكة الخشبية".
رغم حرارة الجو، تدفئ الوالدة للوالد «مِقراجًا» من الماء للوضوء قبيل أذان العصر بقليل؛ ففي الصحراء يتجنب الإنسان استعمال الماء البارد ما أمكنه ذلك.
صوت المقرئ محمد الزياني يضفي على الأجواء روحانية وطمأنينة لا توصف؛ لا زلت، كلما سمعتُ تلاوته، ونحن في سنة 2025، أسترجع زمن البساطة والعائلة وما قبل الحداثة القبيحة.رائحة بدايات امتزاج مكونات الحريرة لا مثيل لها بين كل روائح الأطباق اليوم.
إنها حريرة الأم... ويا لها من حريرة!
فيها من كل الملذات نصيب: الدفء، الرحمة، المعنى، الدين، الوقار، حسن الجوار، طاعة الزوج، الكرم، الأنفة، الحشمة، القناعة، وصلة الرحم.كان المطبخ جدرانه ملونة بسواد لهب الكانون، وطاولة عليها بعض الأواني، وكسكاس من القصب، ورحى من الحجر. ولكن خبز الوالدة كان «قطعة فنية» و«نكهات الإنسانية كلها مجتمعة فيه»، لأنه خبز معجون بالحلال والاستغناء عما في يد الخلق.يستيقظ الوالد من قيلولته المقدسة؛ لقد قضى بدايات شبابه في صفوف المقاومة وجيش التحرير، وبقية كهولته في صفوف القوات المسلحة الملكية، وآن له أن يستريح.
يكمل وضوءه، ويأمرني وأخي أن نلحق به إلى مسجد الشرفاء توبالت لصلاة العصر وقراءة حزب القرآن بعد الصلاة.
نطيع الأمر لنعيش أجواء المسجد بين العصر والمغرب في رمضان، وهي من أروع مقاطع الزمن النسبي في مسيرة عمري. تلك حكاية سأحكيها في الجزء الثاني، بحول الله.
المدينة: طانطان
التاريخ: قد يكون 1983
الموسم: رمضان
الوقت: صيف قائظ
الوالد رحمه الله في قيلولة بعد الظهر.
المسجلة «سانيو Sanyo» ينبعث منها هذا الصوت الساحر؛ سورة الأنفال بالضبط... أعرف بعدها أنه المقرئ محمد الزياني.
رائحة الإسفلت المنبعثة من شارع الحسن الثاني، حيث الشاحنات تصب القار السائل على الأرض.
أنا ملقى على حصير قديم هناك بعيدًا عن الوالد؛ تارة أسمع شخيره، وتارة ألتقط تلاوة المقرئ.
الوالدة تعزل الشوائب غير الصالحة من ربطتي «قزبر وكرافص» استعدادًا لتحضير حريرة الإفطار.
قطة باسطة ذراعيها؛ نصف جسدها تحت أشعة الشمس، والنصف الآخر يستمتع بالظلّ الظليل.
صوت نقط الماء يتقاطر في «سطل» بلا يد؛ تنزل القطرات بفواصل زمنية مسترخية بسبب عطل في الصنبور. إن أحكمتَ إغلاقه امتنع وسرَّب الماء كأنه مفتوح، فنغلقه بلطف وبالحيلة إلى مستوى يسمح للقطرات بالحرية؛ صنبور لا يقبل الفتح ولا الغلق.
ذبابات تستعرض مهاراتها في الطيران، مصدرة طنينًا متموجًا يعلو ويخفت؛ كأنها في استعراض احتفالي. تأبى الابتعاد رغم تلويحي باليد تهديدًا، يبدو أنها "صبية ذباب" تعتبر التهديد نوعًا من التسلية، وتقرأ تلويحاتي على أنها انخراط معها في ألعابها.طرق خفيف على الباب... يبدو أن ابن الجيران يطلب من والدتي قليلًا من الطماطم المصبّرة لإكمال عدة الإفطار.
صورة الملك محمد الخامس تؤثث الجدار الشرقي لـ"المصرية" أي بيت الضيافة؛ جدار مطليّ بالجير الأبيض، تساقط بعضه كقطع من الآيس كريم الرقيقة.
في الجدار الغربي مسمار يتيم تعلق عليه الوالدة سبحتها، وأحيانًا بعض المفاتيح.
في الزاوية هناك صينية إعداد الشاي مع زنبيل الشاي وعلبة السكر، يسترهم عن النظر منديل قديم هو في الأصل قطعة من كيس دقيق مكتوب عليه بعض الحروف اللاتينية، أعتقد أنها مرتبة هكذا: USA.يبدو أن الذبابات قد أزعجت القطة فقفزت متدمّرة محتجة، وغيرت المكان؛ مشيتها تدل على أن الذبابات تجاوزن حدود اللياقة والأدب.
لا يزال وقت أذان العصر بعيدًا. في زاوية بيت الوالد، فوق "البيفي" وهو صندوق حديدي طوله يتجاوز المتر والنصف، يضع فيه الوالد أشياءه الثمينة مثل كناش الحالة المدنية وبعض صوره الفوتوغرافية وهو يرعى الغنم بالأبيض والأسود.تتمركز ساعة مزعجة في هذا الوقت من اليوم، إنها ساعة الدجاجة وصغارها؛ يظل رأسها يعلو وينخفض كأنها "تلتقط الحب"، لا هي التقطت الحب، ولا المؤذن محمد سالم رفع أذان العصر.
أجمل ما يكسر سكون الانتظار ورتابته هو مديح نبوي باللهجة الحسانية ترفعه الوالدة وهي تفرك في «البانيو» باستعمال «الفراكة الخشبية» بدلتي المدرسية الزرقاء المزينة بصورة شمس مشرقة صفراء على جانب الصدر الأيسر؛ كانت من ثوب النيلون الحارق في الصيف، وكانت إجبارية، لكنها كانت تنشر المساواة بين التلاميذ في المدرسة.كانت أبيات المديح تبدأ بقولها: «صلى الله على محمد، كَدَّ السَّاكت ولمتكلم، كَدْ نجوم الليل مظلم»، أي: اللهم صلّ على محمد عدد الساكتين والمتكلمين، وعدد نجوم الليل المظلم.كان صوتها مطربًا... رحم الله زمن "الفراكة الخشبية".
رغم حرارة الجو، تدفئ الوالدة للوالد «مِقراجًا» من الماء للوضوء قبيل أذان العصر بقليل؛ ففي الصحراء يتجنب الإنسان استعمال الماء البارد ما أمكنه ذلك.
صوت المقرئ محمد الزياني يضفي على الأجواء روحانية وطمأنينة لا توصف؛ لا زلت، كلما سمعتُ تلاوته، ونحن في سنة 2025، أسترجع زمن البساطة والعائلة وما قبل الحداثة القبيحة.رائحة بدايات امتزاج مكونات الحريرة لا مثيل لها بين كل روائح الأطباق اليوم.
إنها حريرة الأم... ويا لها من حريرة!
فيها من كل الملذات نصيب: الدفء، الرحمة، المعنى، الدين، الوقار، حسن الجوار، طاعة الزوج، الكرم، الأنفة، الحشمة، القناعة، وصلة الرحم.كان المطبخ جدرانه ملونة بسواد لهب الكانون، وطاولة عليها بعض الأواني، وكسكاس من القصب، ورحى من الحجر. ولكن خبز الوالدة كان «قطعة فنية» و«نكهات الإنسانية كلها مجتمعة فيه»، لأنه خبز معجون بالحلال والاستغناء عما في يد الخلق.يستيقظ الوالد من قيلولته المقدسة؛ لقد قضى بدايات شبابه في صفوف المقاومة وجيش التحرير، وبقية كهولته في صفوف القوات المسلحة الملكية، وآن له أن يستريح.
يكمل وضوءه، ويأمرني وأخي أن نلحق به إلى مسجد الشرفاء توبالت لصلاة العصر وقراءة حزب القرآن بعد الصلاة.
نطيع الأمر لنعيش أجواء المسجد بين العصر والمغرب في رمضان، وهي من أروع مقاطع الزمن النسبي في مسيرة عمري. تلك حكاية سأحكيها في الجزء الثاني، بحول الله.