Saturday 27 September 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الدين المُتبصِّر والمُتدبَّر فيه لا يتنافى أو لا يتناقض مع العلم

أحمد الحطاب: الدين المُتبصِّر والمُتدبَّر فيه لا يتنافى أو لا يتناقض مع العلم أحمد الحطاب
 المقصود بـ "العلم"، هو المفهومُ الدنيوي الذي أبدع الفكر البشري في تقدُّمِه وازدهاره، وليس العلم بالمفهوم الفقهي المُقتصر على كل ما له علاقة بالدين. والفرق بينهما عميق عمق أعالي البحار حيث أن العلم، بالمفهوم الدنيوي، يتقدَّم، يتطوَّر، يتغير، يتجدَّد… بينما ما يسمى بالعلم بالمفهوم الفقهي جامدٌ جمودَ العقول التي أنتجته.
 
بعد هذه التَّوضيحات، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أنه، عندما انتقل الإسلامُ، بسبب تطرُّف كثيرٍ من علماء وفقهاء الدين، من دينٍ وسطٍ، معتدلٍ وسمحٍ إلى دينٍ قهري، متسلِّطٍ وعنيفٍ، أصبح هؤلاء العلماء والفقهاء أعداءً لكل علمٍ يأتي من خارج ما يُسمونه الفقه في مجال الدين، وخصوصا، عندما يأتي العلمُ ممَّن يتَّهمونهم بالكفر والشرك. 
 
وبالضبط، أصبحوا يُحرِّمون كلِّ ما هو ناتِجٌ عن التطوُّرٍ والتقدُّمٍ اللذان حصلا ويحصلان، في البلدان الغربية في مختلف مجالات الانتاج الفكري والعلم والثقافة والتكنولوجيا والصناعة… ولو أن الكثير مما حقَّقته هذه البلدان الغربية من إنجازات ضخمة كانت ولا تزال لها انعكاسات إيجابية على تحسين ظروف عيش وتعايش الناس أجمعين. ورغم ذلك، أفتَوا بتحريم هذه الانجازات وصنَّفوها في قائمة المُحرَّمات على المسلمين.
 
فمنهم، مثلاً، مَن حرَّمَ الموسيقى والغناءَ، ومنهم مَن حرَّم الرَّسمَ والتَّصوير ومنهم مَن حرَّم التلفزيون والسيارة والبدلة… ومنهم مَن حرَّم كل شيء صنعه الكُفار من آلات وأجهزة وأدوِية… ألم يقُل اللهُ، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم، وبالضبط في الآية رقم 124 من سورة النساء : "وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا". ألم يوجد مؤمنون من بين آلاف بل ملايين العلماء الباحثين؟ وأليس العمل الذي يقوم به هؤلاء العلماء الباحثون، عملُ صالحُ، أي فيه نفعٌ للناس أجمعين؟
 
فما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها نتيجةً لهذا التَّصرف الذي يقوم به علماء وفقهاء الدين، وخصوصا، المُتطرفون منهم، والذي لا يمُتُّ بصلةٍ للعقل السليم، النَّيِّر والمُستنير؟
 
قبل الجواب على هذا السؤال، هناك ملاحظتان لا بدَّ من الإشارة إليهما في هذه المقالة. 

 
الملاحظة الأولى تبيِّن، بوضوحٍ، التناقض الصارخ الذي يسقط فيه علماء وفقهاء الدين وأتباعُهم. كل هؤلاء العلماء والفقهاء والأتباع يستعملون، بطريقة أو أخرى، التِّكنولوجياتِ التي هي من إنتاج الغرب الكافر، وعلى رأس هذه التِّكنولوجيات، مختلف التَّطبيقات les applications، وخصوصا، تلك التي تُستعمل في مواقع أو شبكات التواصل الاجتماعي. 
 
كل هؤلاء العلماء والفقهاء والأتباع، عندما يمرضون، يستعملون الأدوية التي هي من إنتاج الغرب الكافر. فلماذا لا يتداوون بالحبة السوداء التي يعتبرونها دواءً لكل داءٍ؟ كل هؤلاء العلماء والفقهاء والأتباع يستعملون الحواسب والهواتف الذكية المحمولة التي هي من إنتاج الغرب الكافر، أو من إنتاج البوذيين والهندوسيين، للولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي… 
 

الملاحظة الثانية لها علاقة بالإنتاج الفكري والعلمي. الإنتاج الفكري، العلمي والتِّكنولوجي، إن كان جُلُّه، اليوم، مُتمَركزاً في الدول الغربية، فهذا يعني أن الناسَ المسئولين عن تدبير الشأن العام، في هذه الدول، اعتنوا وشجَّعوا وموَّلوا هذا الإنتاج وأنشأوا من أجله مؤسساتٍ تُعنى به. وهذا لا يعني، على الإطلاق، أن الغربَ هو الجهة الوحيدة التي انفردت بالإنتاج الفكري، العلمي والتِّكنولوجي. بل كل الحضارات التي عرفتها البشريةُ كان لها دورٌ في هذا الإنتاج. فماذا تعنيانِه هاتان الملاحظتان؟
 
هاتان الملاحظتان تعنيان أن الإنتاج الفكري، العلمي والتِّكنولوجي، ليس حكرا على حضارة دون أخرى، أو بعبارة أخرى، ليس حكرا على ناس دون آخرين، أو بشكلٍ أوضح، ليس حكرا على عقول بشرية دون أخرى. وما دامت العقول البشرية موجودة ونشيطة في كل الحضارات الإنسانية، فالإنتاج الفكري، العلمي والتِّكنولوجي انتقل وينتقل وسينتقل من حضارة إلى أخرى. 

إذن، الإنتاج الفكري، العلمي والتِّكنولوجي، هو، في الحقيقة، ملكٌ للبشرية، علماً أن كلَّ حضارة تُغنِيه وتنمِّيه بما جادَت به العقولُ الباحثة والمُفكِّرة.
 
بعد هذه الملاحظات، بإمكاني الآن الجواب على السؤال المُشار إليه أعلاه والذي هو : "فما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها نتيجةً لهذا التَّصرف الذي يقوم به علماء وفقهاء الدين، وخصوصا، المُتطرفون منهم، والذي لا يمُتُّ بصلةٍ للعقل السليم، النَّيِّر والمُستنير"؟
 
أهم استنتاج، هو أن علماء وفقهاء الدين، القدامى والجدُد، يُصدِرون أحكامَهم على غير المسلمين انطلاقاً من موقفٍ عاطفي وليس من موقفٍ عقلاني ومتبصِّر. لماذا؟
لأن علماءَ وفقهاء الدين، عندما يتعلَّق الأمر بالأمور الدينية، لا يريدون تشغيلَ عقولهم لأنهم يعتبرون الدينَ شيئا مطلقا. والحقيقة، هم مَن جعل الدينَ شيئا مُطلقا بأفكارهم، بفقههم، بكُتُبهم، بفتاويهم، بأحكامهم… إلى درجة أنهم أبدعوا ديناً موازيا للدين الذي أنزله اللهُ، سبحانه وتعالى، على رسوله ونبيِّه محمد (ص). أبدعوا دينا موازيا مبني على القهر وعدم الاختيار والضيق والإجبار والإكراه والقتل والغزو والسَّبي… دينُ مخالف لذلك الذي جاء به القرآن الكريم والذي يقول في حقه، سبحانه وتعالى : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، 256).
 
فلا غرابة أن يحقِدَ علماء وفقهاء الدين، وخصوصا، المُتطرِّفون منهم، على غير المسلمين لأنهم يعترفون، فقط، بالدين الموازي الذي أبدعوه دون أن يستعملون عقولَهم، ويُهملون الدينَ الذي أنزله اللهُ، سبحانه وتعالى، على رسوله (ص) والذي جاء به القرآن الكريم.

والقرآن الكريم، كلُّه موجَّه لذوي العقول النَّيِّرة والمُستنيرة، حيث أن آياتٍ كثيرةً تنتهي بتساؤلات من قبيل "أفلا تعقلون" و "لعلَّكم تعقلون" و"لقوم يعقلون"... والتّساؤلاتُ صادِرة عن المولى، عزَّ وجلَّ، ومُوجَّهة للناس. بل إن اللهَ، سبحانه وتعالى، خاطب في آيات كثيرة مباشرةً أصحاب العقول النَّيِّرة والمستنيرة، والذين سمَّاهم، جلَّت قدرتُه، "أولي الألباب". من بين هذه الآيات، أذكرُ، على الخصوص :
 
1 ـ "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" (آل عمران، 190). في هذه الآية الكريمة، يبيِّن لنا، سبحانه وتعالى، أن أصحابَ العقول النَّيِّرة والمستنيرة، هم وحدهم مَن يطرحون على أنفسِهم أسئلة من قبيل متى، كيف ولماذا خلق اللهُ، سبحانه وتعالى، السموات والأرض. والعلماء الدنيويون هم مَن يبحث أو يقومون بأبحاث ليجدوا أجوبةً لهذه الأسئلة. بينما علماء وفقهاء الدين يقبلون ولا يكلِّفون أنفسَهم عناءَ التَّفكير في "متى، كيف ولماذا". 

2 ـ "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 29). في هذه الآية الكريمة، الكتاب هو القرآن. وكلام الله موجَّهٌ لرسوله (ص)، مُخبراً إياه بأن تنزيلَه القرآنَ عليه، بالطبع، لتبليغِه إلى الناس، لكن الناس الذين يُشغِّلون عقولَهم للوقوف على معاني آياته. واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول "لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"، أي كل آيات القرآن الكريم وليس آياتٍ دون أخرى. والقرآن الكريم فيه آيات يُشيرُ مضمونُها إلى الدين والعبادات وما يترتَّب عنهما من إيمانٍ وتقوى وخضوع وطاعة ومن قيمٍ إنسانية سامية… بينما آياتٌ كثيرة تشير للكون، بما في ذلك الأرض التي هي الكوكب الذي خلق الله، سبحانه وتعالى، الإنسانَ فيه و وَهَبَه العقلَ ليتدبّر كلَّ الآيات التي لها علاقة بالكون وبمُكوِّناته.
 
إذن الدينُ، حسب القرآن الكريم، لا يتناقض مع العلم بالمفهوم الدنيوي. بل إن آياتٍ كثيرةً من القرآن الكريم تدعو الناسَ إلى تشغيل عقولهم ليفكِّروا في كل ما من شأنه أن ينفعَ البلادَ والعِبادَ. والعلماء الدنيويون هم مَن يشغِّل هذه العقول، خلافاً لعلماء وفقهاء الدين، وخصوصا منهم المتطرفون، الذين فضَّلوا تجمِيدَ عقولهم، بل يسعون جاهدين لتجميدِها عند أتباعِهم.