تكشف الأحداث والوقائع أن المناعة الحزبية والثقافية والإعلامية باتت مشلولة وعاجزة عن مواجهة المؤامرات الدنيئة والمخططات الخبيثة التي تموّلها وتنفذها جهات عديدة، داخلية وخارجية، معادية للوحدة الترابية وللاستقرار الذي ينعم به المغرب ويميزه عن محيطه الإقليمي المتموّج والمضطرب، بغاية استهداف النظام والدولة والشعب. فباستثناء مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت ساحة مواجهات حقيقية تقودها فئة واسعة من بنات وأبناء المغرب الأوفياء للوطن ضد العملاء والخونة الذين انخرطوا في خدمة تلك الأجندات المعادية للدولة وللنظام، لا نسمع صوت الهيئات السياسية والمدنية التي تتلقى تمويلا من خزينة الدولة مقابل تأطير المواطنين والدفاع عن قضايا الوطن ومصالحه العليا. لقد لاذت بالصمت والتجاهل وكأن الحملة المسعورة ضد مؤسسات الدولة والتشهير بالمسؤولين، خاصة الأمنيين منهم، لا تعنيهم كهيئات أو كأعضاء مسؤولين بها. والأنكى من كل هذا، أن تلك الهيئات جعلت من الانتخابات المقبلة شغلها الشاغل الذي يحظى بكل الأولوية عما يتعرض له الوطن من مؤامرات. نحن أمام نخبة سياسية لم يعد يهمها غير المناصب والمكاسب.
استقالة الأحزاب والمثقفين
شكّل المثقفون، على مدى عقود، ضمير الشعب وقدوته نحو التجديد والتغيير والإصلاح. إلا أن التحولات التي عرفها المغرب مع العهد الجديد (طي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، جبر الضرر، تقرير الخمسينية، النموذج التنموي الجديد، الانفتاح السياسي والحقوقي الذي كرسه دستور 2011 ..) كشفت عن كون الثقافة التي استبطنها هؤلاء وتشبعوا بها وروجوا لها تتمفصل حول المواجهة والصدام مع النظام. تلك كانت ثقافة جيلين لما بعد الاستقلال طبعت الذهنيات ورسخت مفاهيم المواجهة/الثورة عبر المنشورات والكتب والمجلات. وكان الجميع (يساريون، قوميون، اشتراكيون، إسلاميون، عسكريون) يطمح لإسقاط النظام ويبشر بدنو أجل انهياره. لكن النظام عاكس كل الطموحات وأفشل كل المخططات المناوئة لوجوده، فأثبت قدرته على التغير والتطور والإصلاح، بحيث صار حاملا لمشروع التحديث والدمقرطة والمساواة والمناصفة؛ بينما النخبة السياسية والحزبية والثقافية أعاقتها أعطابها الذاتية عن مواكبة إرساء أسس المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي الذي التزم الملك محمد السادس بحمله وإنجازه في خطاب 29 ماي 2003، بعد التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء كالتالي: (وسيظل المغرب وفيا لالتزاماته الدولية مواصلا بقيادتنا مسيرة إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي بإيمان وثبات وإصرار).
عقْد ونصف مر على اعتماد دستور 2011 ولا زالت عدد من بنوده لم تتم أجرأتها بسبب تخلف الأحزاب المشكلة للحكومات المتوالية، خلال ذات الفترة، عن مسايرة منهجية التحديث التي وضع الدستور أسسها.
وقد أثبتت الدولة التي كانت عصية على الدمقرطة ورافضة لكونية حقوق الإنسان، أنها صارت أداتها وحاملة لها من مداخل شتى، منها مدخل الانتخابات، كما هو واضح وجلي في خطاب العرش 2016 الذي طالب الأحزاب السياسية بحسن اختيار المرشحين، ودعا، بالموازاة، المواطنين إلى تحمل مسؤوليتهم الوطنية في التصويت على من يستحق تمثيلهم في البرلمان والمجالس المحلية (لذا أوجه النداء لكل الناخبين، بضرورة تحكيم ضمائرهم، واستحضار مصلحة الوطن والمواطنين، خلال عملية التصويت بعيدا عن أي اعتبارات كيفما كان نوعها. كما أدعو الأحزاب لتقديم مرشحين، تتوفر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة، وروح المسؤولية والحرص على خدمة المواطن).
الفقيه لي نتسناو بركتو..
للأسف الذين كانوا يطالبون الدولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان صاروا، في غالبيتهم، أبعد ما يكونوا عن مطالبهم. ولا أدل على ذلك عدد ملفات النهب والفساد المعروضة على القضاء، أو التي صدرت فيها أحكام قضائية، لمسؤولين على تسيير مجالس ترابية أو أعضاء برلمانيين زكّتهم الأحزاب وصوت عليهم الناخبون؛ ثم التمثيلية النسائية، سواء في الهيئات المركزية للأحزاب، أو في البرلمان الذي رغم تنصيص الدستور على المساواة والمناصفة لم تحصل على العضوية فيه سوى 90 نائبة وكان ذلك بفضل "الكوطا"، بينما لم تنجح في الدوائر الانتخابية المحلية سوى 5 نساء. والأدهى والأمرّ أن الأحزاب تزكي المتورطين في ملفات الفساد ومن تحوم حولهم الشبهات، أو أولئك الذين سبقت إدانتهم قضائيا.
أما المعركة من أجل تعديل مدونة الأسرة فلم تتحمس لها غالبية الأحزاب باستثناء حزب البيجيدي الذي جعلها معركته المصيرية لعرقلة مشروع التحديث والدمقرطة، من جهة، ومن أخرى لاستثمارها في الحملة الانتخابية للحصول على أصوات مناهضي حقوق النساء. ولا شك أن اعتبار الأحزاب قضية تعديل مدونة الأسرة ليست أولوية بالنسبة إليهم، أوحى لمناهضي حقوق المرأة بأن المعركة هي بين النظام الذي حمل على عاتقه، منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، مسؤولية النهوض بحقوق النساء، وبين تنظيمات الإسلام السياسي التي تصر على تكريس وشرعنة القهر والظلم والتمييز ضد النساء. لهذا لا غرابة أن نجد فئات واسعة من النخبة السياسية والمثقفة تخونجت وصارت تتبنى خطاب وتصور الخوانجية من القضايا الجزئية إلى الكبرى: الحريات الفردية، العلاقات الرضائية، حقوق النساء، المساواة في الإرث، إثبات النسب باعتماد البصمة الوراثية وتزويج الطفلات. بل إن طيفا من تلك النخبة التي تعتبر نفسها مناضلة في الصف الأول يصدّق مزاعم الصحافة والمقالات مدفوعة الأجر بأن المغرب استعمل تطبيق بيغاسوس للتجسس على رؤساء حكومات أوروبية. ورغم نفي تلك الحكومات المعنية مباشرة، الا ان تلك الفئة من تجار النضال ظلت متشبثة بسرديتها ومنخرطة في خدمة أجندات عدائية للنظام وللوحدة الترابية للمغرب.
