أكد إبراهيم بلالي أسويح، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، أن مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب لحل نزاع الصحراء تسلط الضوء على رؤية مغربية استباقية لإعادة رسم التوازنات الإقليمية والدولية.
وأضاف بلالي اسويح، في دراسة مطولة، تنشرها جريدة "أنفاس بريس" في محورين، أن اعتماد المغرب على دبلوماسية ناجحة وتنمية اقتصادية قوية، حول الأقاليم الجنوبية إلى رافعة للاستقرار والشراكة الاستراتيجية، مع دعم متنامٍ من قوى دولية وازنة.
وشدد الباحث بلالي السويح، أن المبادرة أصبحت اليوم الخيار الواقعي والمتوافق عليه دولياً، خاصة مع الإشارات الإيجابية من مجلس الأمن والأطراف المؤثرة في القرار الأممي.
فيما يلي المحور الأول من الدراسة:
في هذا السياق المتنامي حول اعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ سنة 2007 ، المشروع الوحيد القابل للتطبيق عبر آلية المفاوضات التي ستشرف عليها الأمم المتحدة في المرحلة المقبلة للحسم النهائي في ملف هذا النزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية المغربية، لابد من التذكير بالدور المحوري الذي لعبته الدبلوماسية الملكية في تدبير التعاطي بمقاربة شمولية مع مسار الترافع الدولي خلال العقدين الماضيين، والذي أفضى إلى هذا الزخم من التأييد لهذه المبادرة من مختلف القارات، بل أن العشرات من هذه الدول فتحت لها تمثيليات قنصلية بمدينتي العيون والداخلة.
نهج الدبلوماسية الملكية تركز بالخصوص، على الرفع من المستوى التنموي للأقاليم الجنوبية، لإعطاء المزيد من المصداقية والواقعية لمشروع الحكم الذاتي من جهة أولى، ثم ترسيخ أكثر فعالية لانخراط هذه الأقاليم ضمن المتغير الإقليمي والقاري ثم العالمي عبر جهود هذه الدبلوماسية التي حددت المعالم الكبرى لصدق الصداقات ونجاعة الشراكات من منظار ملف الوحدة الترابية للمملكة من جهة ثانية، والانتقال لمرحلة التغيير من جهة ثالثة.
إن فهم مشروع الحكم الذاتي المغربي لا يقتصر - رغم الأهمية القصوى لذلك - على مستوى تعريف أو تنزيل هذا النظام، والذي بموجبه يتم توزيع الصلاحيات أو الاختصاصات بين المركز والجهة، وهو خيار اللامركزية الذي يتبناه المغرب في مسلسل تحقيق التوازن والعدالة الترابية الذي أقره دستور المملكة سنة 2011 ، بل أن المبادرة المغربية هي ضمنيا تستجيب لتطلعات جيوسياسية بمنطق رابح-رابح، أصبحت معه رياح التغيير الإقليمي والعالمي تفرض نوعا من التوافق حول طبيعة التسوية الممكنة، والتي لن تخرج عن العملية السياسية، وأطراف هذا النزاع المفتعل الحقيقيين والغاية منها، التي هي الوصول إلى الحل الواقعي التفاوضي، كما تنص على ذلك قرارات مجلس الأمن المتعاقبة خلال الآونة الأخيرة، والتي تخلت بشكل نهائي عن المقترحات الديماغوجية، من مخلفات حروب التوازن الأيديولوجي، لفسح المجال لحسابات ضمان المصالح المشتركة في نظام عالمي جديد، لا يؤمن بثقافة الانفصال التي أصبحت ترادف في حالات كثيرة عدم الاستقرار والتهديد الإرهابي..
لقد استطاع المغرب من خلال هذه المبادرة، أن يجعل من الأقاليم الجنوبية منصة فعالة لضمان الاستقرار وجلب الاستثمار، للعب أدوار جيوسياسية في العمق الأفريقي، وتحديدا في الساحل وغرب القارة ثم جنوب الأطلسي، مما عزز من هذا الدعم الدولي الذي يراهن على هذه البوابة الآمنة ضد الاضطرابات التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء عموما، وتأثير ذلك على السلم والأمن الدوليين.
من هذا المنطلق إذن، سنخصص المحور الأول من هذا المقال لتحليل المتغير الجيوسياسي، مع التركيز على دوره المحوري في توسيع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي المغربية حول الصحراء، وذلك من خلال إبراز الأبعاد الجيوسياسية التي ساهمت في ترسيخ شرعيتها ومصداقيتها على المستويين الإقليمي والدولي، في حين نستعرض خلال المحور الثاني تجليات رهان الواقعية وأفاق التفاوض التي يتحلى بهما مشروع مقترح الحكم الذاتي المغربي كإطار لتسوية النزاع حول الصحراء.
المحور الأول: المتغير الجيوسياسي في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي
لطالما شكل السياق الجيوسياسي قاعدة لسبر أغوار النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، وذلك لقياس التجاذبات التي ترخي بظلالها على التسوية النهائية، التي بات من شبه المؤكد أنها جعلت من هذه الأقاليم الجنوبية للمملكة رهانا مغاربيا في توفير أرضية للسيطرة والتحكم، تتسارع العديد من القوى العظمى إلى التموقع الى جانب المملكة المغربية في هذا الخلاف الإقليمي، وفقاً لحسابات جيواستراتيجية وأمنية واقتصادية.
لقد نجح المغرب الى حد كبير في تحقيق طموحه المعلن على الصعيد الإقليمي في تكريس موقع استراتيجي كمركز اقتصادي ومالي بين القارتين الأوربية والأفريقية، ومحور فعال في الشراكة الاستراتيجية جنوب-جنوب، قائمة على تعزيز التعاون رابح - رابح، والذي رغم هذه الاضطرابات الإقليمية استطاع ترسيخ دوره كقطب للاستقرار، من خلال جعل الأقاليم الجنوبية محور استراتيجيته في التنمية والاندماج.
ومع ذلك فإن هذا الدعم الغربي الواسع والصريح بشكل متنامي وراء مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة، وتحديداً الصراع المحتدم بين الغرب والقطب التي تقوده الصين وروسيا، وانعكاسات ذلك على التوازنات الإقليمية في المنطقة المغاربية والقارية عموما.
فإلى أمد ليس بالبعيد كان هذا النزاع الإقليمي، والذي تشرف عليه الأمم المتحدة حصرياً يعرف حالة من الجمود النسبي وهو الذي عمر لخمسة عقود، فقد أصبحت تلوح في الأفق القريب حسب آخر تقرير لمعهد السلام التابع للكونغرس الأمريكي بوادر بداية الحسم والطي النهائي له بعد زخم الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء وأولوية وسمو المقترح المغربي للحكم الذاتي المكرس بقرارات مجلس الأمن المتعاقبة آخرهم كان قرار أكتوبر الماضي رقم 56 27.
لا مناص إذن، من أن عالم اليوم يشهد تنافسا بين الغرب والكتلة التي تقودها الصين وروسيا، تحول إلى حرب باردة جديدة، وهناك سباق محموم بين الجانبين لتعزيز نفوذهما في المحيط الهادي وخاصة في تايوان، بالمقابل تحاول بيكين مع موسكو الحصول على قواعد عسكرية على ساحل المحيط الأطلسي، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء دور المحيط الأطلسي كساحة أمامية في استراتيجية الردع وحماية مصالحها. لذلك فهي ترى أن أي وجود عسكري صيني روسي دائم هناك، وخاصة إنشاء قاعدة بحرية تمثل تهديدا خطيرا للأمن القومي الأمريكي، هذا الفهم العميق للدور الاستراتيجي الذي تلعبه المملكة إقليميا وقاريا جعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال فترة ولايته الأولى يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء ديسمبر 2020 ، وعدم تراجع إدارة الديمقراطيين برئاسة جون بايدن فيما بعد،جعل الشراكة مع المغرب مميزة كحليف قوي خارج نطاق حلف شمال الأطلسي عبر بوابة استمرار التعاون لمكافحة الإرهاب من خلال التنسيق العسكري والأمني لاسيما مع متابعة تنفيذ اتفاقية التعاون الدفاعي الممتدة حتى عام 2030.
هذا السياق المتوتر دفع بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر فأكثر لإعادة رسم خريطة نفوذها الأمني في منطقة الصحراء والساحل، خصوصا بعد خسارة قاعدتها العسكرية في النيجر والحديث المتزايد عن إمكانية نقل قاعدة روتا جنوب إسبانيا إلى المغرب، وبالتالي يبقى نجاح هذه الاستراتيجية مرهونا بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب على مواجهة التحديات الإقليمية وتعزيز التعاون في مختلف المجالات.
وإذا ما استحضرنا مواقف مجموعة من القوى الأوربية التي تتطابق مع الطرح المغربي كحالة إسبانيا منذ مارس 2022، وفي إطار نفس الدينامية كذلك فرنسا خلال يوليوز 2024 بالاصطفاف وراء المقترح المغربي باعتباره القاعدة الوحيدة من أجل الوصول إلى حل سياسي دائم، والذي سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التأكيد في قبة البرلمان المغربي أكتوبر 2024 على أن موقف بلاده هذا من المبادرة المغربية "جاء بالنظر إلى تحيين المعطيات وتطورها بالنسبة للمتدخلين مع توافق دولي متزايد وواسع وتنمية اقتصادية واجتماعية للأقاليم الجنوبية للمملكة وهو ما يعكس رؤية فرنسا لعلاقة شاملة ومعمقة مع المغرب، قائمة على تصور صاحب الجلالة التي حددها في خطاباته السامية وهي علاقة أساسها التكامل والاحترام المتبادل تستهدف تعزيز هذا الاستقرار الإقليمي والشراكة المبتكرة والشاملة، التي تتجاوز التعاون التقليدي لتشمل أهدافاً طموحة تتماشى مع تحديات المستقبل" . فإن الانخراط الغربي بذلك ما فتئ يتوسع من خلال مواقف دول وازنة كبريطانيا التي تميل إلى مزيد من الانفتاح على المبادرة المغربية، علماً بأن دولا أخرى كألمانيا وهولندا عبرتا في السابق على مواقف مماثلة مؤيدة، هذا المنحى لا يمكن اختزاله في مصالح آنية أو نتيجة قد تكون حتمية لعلاقات ثنائية بين الدول، بل أن الأمر تعدى ذلك إلى تقاطع لمصالح مشتركة بين هذه الدول، مع الانخراط الكامل لغالبية الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة، العربية السعودية، الأردن وغيرها) وكذلك الدعم الأفريقي، لخلق جبهة دبلوماسية للدفاع عن مشروعية الحكم الذاتي، ما فتئت تتوسع شيئا فشيئا مما يجد تفسيره في الديناميات الجهوية الحالية التي فرضت مراجعة مسار التسوية برمته لهذا الملف الشائك، نحو المقاربة الواقعية التي لم تعد كما هو الحال في السابق تخضع لنفس آليات التجاذبات و المحاور التي أعادت المنطقة المغاربية سنوات إلى الوراء، بعدما كان يبدو أن هذا الاستقطاب قد انتهى مع نهاية الحرب الباردة حيث جذور افتعال هذا النزاع والذي زاد من حدة الصراعات بين الجيران، مما ينذر بأن قواعد اللعب قد تغيرت ولم تعد مرهونة فقط بصراع المحاور بين المغرب والجزائر عبر تسارع جهود التسلح وزيادة التحالفات العسكرية مع القوى الكبرى المتنافسة، بل بالانتقال الى برغماتية أشمل وأعمق تتيحها حالياً ملامح الهندسة الجديدة للنظام العالمي الجديد لصالح المغرب، والذي ظل يتأرجح لفترة طويلة بين تأثير نظاميين إقليميين فرعيين هما النظام المغاربي ونظام غرب المتوسط ،وهما نظامان متداخلان وتمثل قضية الوحدة الترابية للمملكة أحد أهم عناصر تفاعلهما وتأثرهما المتبادل. مما سمح للمملكة بهامش واسع للمناورة، رغم تأثيرات هذين النظامين بفضل المكاسب الدبلوماسية الكبيرة خصوصا من لدن الأطراف المؤثرة كحالة إسبانيا وفرنسا، على اعتبار أدوارهم التاريخية والجيوسياسية التي من شأنها تحرير المغرب نسبياً من قيود الأنظمة الإقليمية التي تتجاذبه، وفي مقابل ذلك ترى الجزائر في هذا المنحى تهديداً لها وهو ما يفسر ردة فعلها مباشرة من هاذين التقاربين المغربي الإسباني وكذا الفرنسي غير المتوقعين، والذي هو في الحقيقة ثمرة تراكمات لتعزيز موقع المملكة في النظامين الدولي والإقليمي، والذي تجلى بوضوح إبان تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بالنظر إلى موقعه الجيوسياسي المهم، وهو يحاول كل ما في وسعه تعزيز هذه المكانة من خلال موقفه البراغماتي من هذه الأزمة وحفاظه على خطوة الاتصال مع مختلف شركاءه، ويظهر هذا جلياً من خلال انخراطه في الحراك الدبلوماسي الذي شهدته المنطقة العربية خلال الأسبوع الأول الذي تلى اندلاع أزمة أوكرانيا، ولعل من العوامل التي جعلت الدول الغربية توجه أنظارها إلى المغرب في هذا الوقت بالذات هو ما قد يقدمه من خيارات لأوروبا لتعزيز أمنها الطاقي، سواء ما يزخر به من مصادر الطاقة المتجددة الشمسية والريحية منها أو الاحتمالات الكبيرة لوجود احتياطات مهمة للغاز في الأراضي المغربية، وأيضا المشروع الواعد خط نيجيريا - المغرب الذي قد يسهم في تعويض الخصاص الأوربي وتنويع مصادر أوروبا من الطاقة.
ومما يزكي هذا الاحتمال، التعنت الجزائري إلى درجة الابتزاز مع المطالب الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي - الأوروبي الذي يمر عبر المغرب، مما ينضاف إلى أسباب أخرى من المحتمل إنها قد سرعت بمزيد من التوافقات السياسية بين الرباط ومدريد، تمخضت عنها فيما بعد الإشادة الإسبانية بمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
رهان المتغير الجيوسياسي لم يستثن منطقة الساحل والصحراء عموماً في إعادة ترتيب التوازنات في اتجاه ترسيخ دور فاعل للدبلوماسية الملكية، وتزامن ذلك مع تدشين النيجر ومالي وبوركينافاسو ل "كونفدرالية الساحل" في تحالف ينظر إليه بوصفه "محاولة لبناء محور إقليمي جديد قد يقصي الجزائر من التوازنات المستقبلية، كما انخرطت هذه الدول في "المبادرة الأطلسية" التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، وهي مبادرة تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي ،وهي خطوة مغربية مدروسة لتشكيل تكتل إقليمي جديد يمنح الرباط موقعاً متقدماً في منطقة الساحل، ويعزز حضورها في التعامل مع أوروبا من موقع الفاعل والمبادر، والذي باتت القوى الكبرى تتعاطى معه بنوع من الأمر الواقع، الذي أفرز هذا التأييد للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، خصوصا وأن منطقة الساحل والصحراء تشهد حالياً تنافسا شديداً بين الدول الإقليمية، بعد الانسحاب الكلي لفرنسا من بعض الدول، حيث دخلت كل من روسيا وتركيا والصين وإيران على خط الصراع الدولي لكسب معركة الوجود السياسي بها، وبالتالي وجدت منطقة شمال غرب إفريقيا نفسها مُنْخرطةً في هذا الصراع الدبلوماسي المتزايد باعتبارها مدخلاً إستراتيجيا للنفاذ إلى الساحل، مما جعل المغرب يحظى باهتمامٍ متزايد كفاعل في أي معادلة للتوازن والاستقرار، بعد تصاعد التنافس الفرنسي التركي في العديد من عواصم دول الساحل التي كانت إلى أمد قريب الحليف الأبرز لفرنسا، التي تراجع نفوذها بسبب بوادر التصدع مع أغلبية الأنظمة في المنطقة، خاصة في ظل انفتاح تشاد ومالي والجزائر والنيجر على تركيا مؤخراً، وبات هذا التطور يقلق فرنسا بشكل كبير بعدما تعزز هذا التعاون التركي مع دول المنطقة ليشمل قضايا أمنية وعسكرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
إعادة رسم محاور النفوذ الجيوسياسي حتمت على الدبلوماسية الملكية التقارب مع دول الساحل، التي اختارت أنظمتها العسكرية في باماكو وواغادوغو ونيامي الانفتاح على روسيا والتخلي عن الحليف التقليدي الفرنسي، كما تتجه في الوقت ذاته إلى شراكة مع المملكة، التي رويداً رويداً فرضت نفسها كقوة إقليمية ذات موقع جغرافي استراتيجي، واتصالات دولية مستقرة وأجندة تنموية واضحة، كما أن توتر علاقات هذه الدول مع دول إقليمية أخرى يعزز من أهمية المغرب كشريك بديل في مشاريع البنية التحتية والطموحات الإقليمية.
وبدا من الواضح أن العزلة التي فرضها هذا التحالف على نفسه من خلال الانسحاب من المنظمات الإقليمية التقليدية مثل "الايكواس" يقابله الآن محاولته فتح ممر جديد نحو الأسواق العالمية عبر المحيط الأطلسي. وفي السياق ذاته توترت مؤخرا علاقات هذه الدول مع الجزائر، حيث أعلنت هذه الدول مطلع أبريل الماضي استدعاء سفراءها من الجزائر احتجاجا على إسقاطها لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي في شمال البلاد قرب الحدود الجزائرية أواخر مارس 2025.
واللافت كذلك، أن الأبعاد الميدانية لمخاطر التوغل الإيراني في منطقة الصحراء والساحل، كان مصدر توجس وقلق بالغ للدول الغربية، والتي بادرت هي الأخرى إلى التنبيه إلى خطورة هذا الوجود الإيراني، بعقد منتدى في العاصمة الإسبانية مدريد بمبادرة من معهد كورد بناداس الإسباني للحكامة والاقتصاد التطبيقي يونيو 2023، تحدث فيه أعضاء البرلمان الأوروبي عن تغلغل إيران في منطقة الصحراء والساحل ،بما في ذلك تزويد انفصالي جبهة البوليساريو بطائرات مسيرة مما يشكل تهديداً حقيقياً ويتعين على الاتحاد الأوربي مواجهته.
من زاوية أخرى، فإن توطيد العلاقات الحالية للمملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية في النسخة الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك مع دولة إسرائيل يتوقع منه زيادة الضغوط للتسريع بإيجاد تسوية نهائية عبر تبني بشكل أكثر حسما للمبادرة المغربية كاطار وحيد للتفاوض، لأنها تضمن حفاظ الولايات المتحدة الأمريكية على موطئ قدم في الشمال الغربي لأفريقيا، الذي يشهد تراجعاً للنفوذ الفرنسي وصعودا للنفوذ الروسي، خصوصاً في كونفدرالية دول الساحل التي تساندها روسيا بطرق مختلفة من ضمنها نشر الفيلق الأفريقي في هذه المنطقة، والذي يمكن أن يمتد تأثيره على منطقة الصحراء المغربية وهو سيناريو لا ترغب واشنطن حدوثه.
انسجام مبادرة الحكم الذاتي مع بوصلة الاستقطاب الجيوسياسي القاري امتدت إلى الإتحاد الأفريقي، من خلال دور المغرب المحوري في تزعم التيار الذي يعتمد مقاربة جديدة للاتحاد، تقوم على الاهتمام بالقضايا التنموية من أجل تجاوز المقاربة التقليدية لصالح توجه جديد تحكمه في الأساس المصالح الاقتصادية على حساب الأجندات السياسية، وهو ما أضعف تعاطف الأفارقة مع ملف النزاع حول الصحراء ،أي بمعنى أدق تقديم حسابات السياسة في ثوب الاقتصاد، قد مكن المغرب من جلب تعاطف أفريقي معه في تثبيت سيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية.
من جانب آخر فإن السياسة وحدها ليست هي كل ما يحرك المغرب والجزائر للتقارب مع دول العمق الإفريقي، فثمة عوامل أخرى تفرض هذا التوجه وتأتي في طليعتها محاولة تعويض فراغ التكتلات الاقتصادية في شمال إفريقيا، بعد فشل مشروع المغرب العربي على المستوى الاقتصادي أو على الصعيد السياسي، وقد أصبح الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية خياراً إستراتيجيا تمليه متطلبات العولمة ، ومما يغذي هذا السعي تراجع فاعلية السوق الأوروبية التي كانت شريكاً مهماً لدول الاتحاد المغاربي بسبب الهزات الاقتصادية والأزمات المالية المتلاحقة التي تعصف بالاقتصاد الأوروبي، وكذلك لنزوع دول عديدة في الاتحاد الأوروبي إلى القطع مع الشراكة الأوروبية وفق ضوابط الاتحاد، في ظل سياسات التموقع الذاتي التي باتت تنادي بها تيارات اليمين المتطرف والتي تحظى بحضور وازن في المشهد السياسي الأوروبي الحالي.
هذه الحسابات الجيوسياسية الجديدة، لا تعني بأن المغرب والجزائر قد تخليا عن حساباتهما التقليدية الخاصة والمتعلقة بملف الصحراء، الذي ظل نقطة خلافية جوهرية بين البلدين على مستوى دوائر القرار في إفريقيا.
كذلك ومن منظور جيوسياسي صرف، فإن نجاح الدبلوماسية الملكية في الحفاظ على توازن دقيق في علاقات المغرب الدولية، ساهم في خلق فرص واعدة حول ترسيخ جدوائية المقترح المغربي للحكم الذاتي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فقد فتح المغرب أبواب الاستثمارات للصين وروسيا، في حين أن معظم المصالح الاقتصادية المغربية لاتزال مرتبطة بالدول الغربية.
العلاقة المغربية الصينية لم تعد مجرد تعاون اقتصادي عابر، منذ انخراط المغرب المبكر كأول بلد في شمال أفريقيا في مبادرة "الطريق والحزام الصينية" مما فسح المجال لشراكة استراتيجية، فرضت المزج بين الطموحات الجيوسياسية والمصالح التجارية المتبادلة عبر توافق سياسي غير معلن، يتجنب كل طرف التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، ولعل التزام الرباط الحياد في قضايا حساسة لدى بيكين، كما هو الشأن في شينجيانغ أو تايوان وحتى في التبت، قد قابله ميل الدبلوماسية الصينية شيئا فشيئا نحو تحفظ هو أقرب إلى الحياد، وقد ظهر ذلك أثناء المناقشة والتصويت على قرارات مجلس الأمن الأخيرة بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة.
غير أن العامل البالغ الأهمية والذي سيلعب لصالح المغرب في سياق التحالفات الاستراتيجية الإقليمية، والذي أعطى مغزى لهذا التقارب الصيني المغربي، هو مكانة التميز التي تحتلها دول مجلس التعاون الخليجي بالنسبة للاقتصاد الصيني، وهو المجلس الذي أعلنت دوله وحدة المصير المشترك مع سيادة المملكة المغربية على الصحراء.
من جهة ثانية، سعى المغرب لتحييد الموقف الروسي ولو بشروط في نزاع الصحراء في الوقت الراهن، غير أن تعزيز التعاون الاقتصادي والذي شمل ميادين متعددة بما في ذلك رغبة روسيا إنشاء مناطق تجارة حرة مع أربعة دول عربية في إفريقيا، يتصدرها المغرب وهي دلالات سياسية لنزوح موسكو إلى تعاطي أكثر برغماتية مع التحولات الجوهرية في توازن القوى الإقليمية، خاصة في ظل سعي المغرب لتقوية تحالفه الدولي لدعم موقفه التفاوضي في اتجاه الطي النهائي لهذا النزاع، الذي يشكل بالنسبة للمغرب مرتكز الشراكة والتعاون، مما يفتح مزيداً من الآفاق الجديدة التي قد تغير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة في ظل الدينامية التي يشهدها الملف في السنوات الأخيرة بفضل استراتيجية الانفتاح وتنويع الشركاء.
وأضاف بلالي اسويح، في دراسة مطولة، تنشرها جريدة "أنفاس بريس" في محورين، أن اعتماد المغرب على دبلوماسية ناجحة وتنمية اقتصادية قوية، حول الأقاليم الجنوبية إلى رافعة للاستقرار والشراكة الاستراتيجية، مع دعم متنامٍ من قوى دولية وازنة.
وشدد الباحث بلالي السويح، أن المبادرة أصبحت اليوم الخيار الواقعي والمتوافق عليه دولياً، خاصة مع الإشارات الإيجابية من مجلس الأمن والأطراف المؤثرة في القرار الأممي.
فيما يلي المحور الأول من الدراسة:
في هذا السياق المتنامي حول اعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ سنة 2007 ، المشروع الوحيد القابل للتطبيق عبر آلية المفاوضات التي ستشرف عليها الأمم المتحدة في المرحلة المقبلة للحسم النهائي في ملف هذا النزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية المغربية، لابد من التذكير بالدور المحوري الذي لعبته الدبلوماسية الملكية في تدبير التعاطي بمقاربة شمولية مع مسار الترافع الدولي خلال العقدين الماضيين، والذي أفضى إلى هذا الزخم من التأييد لهذه المبادرة من مختلف القارات، بل أن العشرات من هذه الدول فتحت لها تمثيليات قنصلية بمدينتي العيون والداخلة.
نهج الدبلوماسية الملكية تركز بالخصوص، على الرفع من المستوى التنموي للأقاليم الجنوبية، لإعطاء المزيد من المصداقية والواقعية لمشروع الحكم الذاتي من جهة أولى، ثم ترسيخ أكثر فعالية لانخراط هذه الأقاليم ضمن المتغير الإقليمي والقاري ثم العالمي عبر جهود هذه الدبلوماسية التي حددت المعالم الكبرى لصدق الصداقات ونجاعة الشراكات من منظار ملف الوحدة الترابية للمملكة من جهة ثانية، والانتقال لمرحلة التغيير من جهة ثالثة.
إن فهم مشروع الحكم الذاتي المغربي لا يقتصر - رغم الأهمية القصوى لذلك - على مستوى تعريف أو تنزيل هذا النظام، والذي بموجبه يتم توزيع الصلاحيات أو الاختصاصات بين المركز والجهة، وهو خيار اللامركزية الذي يتبناه المغرب في مسلسل تحقيق التوازن والعدالة الترابية الذي أقره دستور المملكة سنة 2011 ، بل أن المبادرة المغربية هي ضمنيا تستجيب لتطلعات جيوسياسية بمنطق رابح-رابح، أصبحت معه رياح التغيير الإقليمي والعالمي تفرض نوعا من التوافق حول طبيعة التسوية الممكنة، والتي لن تخرج عن العملية السياسية، وأطراف هذا النزاع المفتعل الحقيقيين والغاية منها، التي هي الوصول إلى الحل الواقعي التفاوضي، كما تنص على ذلك قرارات مجلس الأمن المتعاقبة خلال الآونة الأخيرة، والتي تخلت بشكل نهائي عن المقترحات الديماغوجية، من مخلفات حروب التوازن الأيديولوجي، لفسح المجال لحسابات ضمان المصالح المشتركة في نظام عالمي جديد، لا يؤمن بثقافة الانفصال التي أصبحت ترادف في حالات كثيرة عدم الاستقرار والتهديد الإرهابي..
لقد استطاع المغرب من خلال هذه المبادرة، أن يجعل من الأقاليم الجنوبية منصة فعالة لضمان الاستقرار وجلب الاستثمار، للعب أدوار جيوسياسية في العمق الأفريقي، وتحديدا في الساحل وغرب القارة ثم جنوب الأطلسي، مما عزز من هذا الدعم الدولي الذي يراهن على هذه البوابة الآمنة ضد الاضطرابات التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء عموما، وتأثير ذلك على السلم والأمن الدوليين.
من هذا المنطلق إذن، سنخصص المحور الأول من هذا المقال لتحليل المتغير الجيوسياسي، مع التركيز على دوره المحوري في توسيع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي المغربية حول الصحراء، وذلك من خلال إبراز الأبعاد الجيوسياسية التي ساهمت في ترسيخ شرعيتها ومصداقيتها على المستويين الإقليمي والدولي، في حين نستعرض خلال المحور الثاني تجليات رهان الواقعية وأفاق التفاوض التي يتحلى بهما مشروع مقترح الحكم الذاتي المغربي كإطار لتسوية النزاع حول الصحراء.
المحور الأول: المتغير الجيوسياسي في دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي
لطالما شكل السياق الجيوسياسي قاعدة لسبر أغوار النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، وذلك لقياس التجاذبات التي ترخي بظلالها على التسوية النهائية، التي بات من شبه المؤكد أنها جعلت من هذه الأقاليم الجنوبية للمملكة رهانا مغاربيا في توفير أرضية للسيطرة والتحكم، تتسارع العديد من القوى العظمى إلى التموقع الى جانب المملكة المغربية في هذا الخلاف الإقليمي، وفقاً لحسابات جيواستراتيجية وأمنية واقتصادية.
لقد نجح المغرب الى حد كبير في تحقيق طموحه المعلن على الصعيد الإقليمي في تكريس موقع استراتيجي كمركز اقتصادي ومالي بين القارتين الأوربية والأفريقية، ومحور فعال في الشراكة الاستراتيجية جنوب-جنوب، قائمة على تعزيز التعاون رابح - رابح، والذي رغم هذه الاضطرابات الإقليمية استطاع ترسيخ دوره كقطب للاستقرار، من خلال جعل الأقاليم الجنوبية محور استراتيجيته في التنمية والاندماج.
ومع ذلك فإن هذا الدعم الغربي الواسع والصريح بشكل متنامي وراء مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة، وتحديداً الصراع المحتدم بين الغرب والقطب التي تقوده الصين وروسيا، وانعكاسات ذلك على التوازنات الإقليمية في المنطقة المغاربية والقارية عموما.
فإلى أمد ليس بالبعيد كان هذا النزاع الإقليمي، والذي تشرف عليه الأمم المتحدة حصرياً يعرف حالة من الجمود النسبي وهو الذي عمر لخمسة عقود، فقد أصبحت تلوح في الأفق القريب حسب آخر تقرير لمعهد السلام التابع للكونغرس الأمريكي بوادر بداية الحسم والطي النهائي له بعد زخم الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء وأولوية وسمو المقترح المغربي للحكم الذاتي المكرس بقرارات مجلس الأمن المتعاقبة آخرهم كان قرار أكتوبر الماضي رقم 56 27.
لا مناص إذن، من أن عالم اليوم يشهد تنافسا بين الغرب والكتلة التي تقودها الصين وروسيا، تحول إلى حرب باردة جديدة، وهناك سباق محموم بين الجانبين لتعزيز نفوذهما في المحيط الهادي وخاصة في تايوان، بالمقابل تحاول بيكين مع موسكو الحصول على قواعد عسكرية على ساحل المحيط الأطلسي، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء دور المحيط الأطلسي كساحة أمامية في استراتيجية الردع وحماية مصالحها. لذلك فهي ترى أن أي وجود عسكري صيني روسي دائم هناك، وخاصة إنشاء قاعدة بحرية تمثل تهديدا خطيرا للأمن القومي الأمريكي، هذا الفهم العميق للدور الاستراتيجي الذي تلعبه المملكة إقليميا وقاريا جعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال فترة ولايته الأولى يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء ديسمبر 2020 ، وعدم تراجع إدارة الديمقراطيين برئاسة جون بايدن فيما بعد،جعل الشراكة مع المغرب مميزة كحليف قوي خارج نطاق حلف شمال الأطلسي عبر بوابة استمرار التعاون لمكافحة الإرهاب من خلال التنسيق العسكري والأمني لاسيما مع متابعة تنفيذ اتفاقية التعاون الدفاعي الممتدة حتى عام 2030.
هذا السياق المتوتر دفع بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر فأكثر لإعادة رسم خريطة نفوذها الأمني في منطقة الصحراء والساحل، خصوصا بعد خسارة قاعدتها العسكرية في النيجر والحديث المتزايد عن إمكانية نقل قاعدة روتا جنوب إسبانيا إلى المغرب، وبالتالي يبقى نجاح هذه الاستراتيجية مرهونا بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب على مواجهة التحديات الإقليمية وتعزيز التعاون في مختلف المجالات.
وإذا ما استحضرنا مواقف مجموعة من القوى الأوربية التي تتطابق مع الطرح المغربي كحالة إسبانيا منذ مارس 2022، وفي إطار نفس الدينامية كذلك فرنسا خلال يوليوز 2024 بالاصطفاف وراء المقترح المغربي باعتباره القاعدة الوحيدة من أجل الوصول إلى حل سياسي دائم، والذي سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التأكيد في قبة البرلمان المغربي أكتوبر 2024 على أن موقف بلاده هذا من المبادرة المغربية "جاء بالنظر إلى تحيين المعطيات وتطورها بالنسبة للمتدخلين مع توافق دولي متزايد وواسع وتنمية اقتصادية واجتماعية للأقاليم الجنوبية للمملكة وهو ما يعكس رؤية فرنسا لعلاقة شاملة ومعمقة مع المغرب، قائمة على تصور صاحب الجلالة التي حددها في خطاباته السامية وهي علاقة أساسها التكامل والاحترام المتبادل تستهدف تعزيز هذا الاستقرار الإقليمي والشراكة المبتكرة والشاملة، التي تتجاوز التعاون التقليدي لتشمل أهدافاً طموحة تتماشى مع تحديات المستقبل" . فإن الانخراط الغربي بذلك ما فتئ يتوسع من خلال مواقف دول وازنة كبريطانيا التي تميل إلى مزيد من الانفتاح على المبادرة المغربية، علماً بأن دولا أخرى كألمانيا وهولندا عبرتا في السابق على مواقف مماثلة مؤيدة، هذا المنحى لا يمكن اختزاله في مصالح آنية أو نتيجة قد تكون حتمية لعلاقات ثنائية بين الدول، بل أن الأمر تعدى ذلك إلى تقاطع لمصالح مشتركة بين هذه الدول، مع الانخراط الكامل لغالبية الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة، العربية السعودية، الأردن وغيرها) وكذلك الدعم الأفريقي، لخلق جبهة دبلوماسية للدفاع عن مشروعية الحكم الذاتي، ما فتئت تتوسع شيئا فشيئا مما يجد تفسيره في الديناميات الجهوية الحالية التي فرضت مراجعة مسار التسوية برمته لهذا الملف الشائك، نحو المقاربة الواقعية التي لم تعد كما هو الحال في السابق تخضع لنفس آليات التجاذبات و المحاور التي أعادت المنطقة المغاربية سنوات إلى الوراء، بعدما كان يبدو أن هذا الاستقطاب قد انتهى مع نهاية الحرب الباردة حيث جذور افتعال هذا النزاع والذي زاد من حدة الصراعات بين الجيران، مما ينذر بأن قواعد اللعب قد تغيرت ولم تعد مرهونة فقط بصراع المحاور بين المغرب والجزائر عبر تسارع جهود التسلح وزيادة التحالفات العسكرية مع القوى الكبرى المتنافسة، بل بالانتقال الى برغماتية أشمل وأعمق تتيحها حالياً ملامح الهندسة الجديدة للنظام العالمي الجديد لصالح المغرب، والذي ظل يتأرجح لفترة طويلة بين تأثير نظاميين إقليميين فرعيين هما النظام المغاربي ونظام غرب المتوسط ،وهما نظامان متداخلان وتمثل قضية الوحدة الترابية للمملكة أحد أهم عناصر تفاعلهما وتأثرهما المتبادل. مما سمح للمملكة بهامش واسع للمناورة، رغم تأثيرات هذين النظامين بفضل المكاسب الدبلوماسية الكبيرة خصوصا من لدن الأطراف المؤثرة كحالة إسبانيا وفرنسا، على اعتبار أدوارهم التاريخية والجيوسياسية التي من شأنها تحرير المغرب نسبياً من قيود الأنظمة الإقليمية التي تتجاذبه، وفي مقابل ذلك ترى الجزائر في هذا المنحى تهديداً لها وهو ما يفسر ردة فعلها مباشرة من هاذين التقاربين المغربي الإسباني وكذا الفرنسي غير المتوقعين، والذي هو في الحقيقة ثمرة تراكمات لتعزيز موقع المملكة في النظامين الدولي والإقليمي، والذي تجلى بوضوح إبان تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، بالنظر إلى موقعه الجيوسياسي المهم، وهو يحاول كل ما في وسعه تعزيز هذه المكانة من خلال موقفه البراغماتي من هذه الأزمة وحفاظه على خطوة الاتصال مع مختلف شركاءه، ويظهر هذا جلياً من خلال انخراطه في الحراك الدبلوماسي الذي شهدته المنطقة العربية خلال الأسبوع الأول الذي تلى اندلاع أزمة أوكرانيا، ولعل من العوامل التي جعلت الدول الغربية توجه أنظارها إلى المغرب في هذا الوقت بالذات هو ما قد يقدمه من خيارات لأوروبا لتعزيز أمنها الطاقي، سواء ما يزخر به من مصادر الطاقة المتجددة الشمسية والريحية منها أو الاحتمالات الكبيرة لوجود احتياطات مهمة للغاز في الأراضي المغربية، وأيضا المشروع الواعد خط نيجيريا - المغرب الذي قد يسهم في تعويض الخصاص الأوربي وتنويع مصادر أوروبا من الطاقة.
ومما يزكي هذا الاحتمال، التعنت الجزائري إلى درجة الابتزاز مع المطالب الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي - الأوروبي الذي يمر عبر المغرب، مما ينضاف إلى أسباب أخرى من المحتمل إنها قد سرعت بمزيد من التوافقات السياسية بين الرباط ومدريد، تمخضت عنها فيما بعد الإشادة الإسبانية بمبادرة الحكم الذاتي المغربية.
رهان المتغير الجيوسياسي لم يستثن منطقة الساحل والصحراء عموماً في إعادة ترتيب التوازنات في اتجاه ترسيخ دور فاعل للدبلوماسية الملكية، وتزامن ذلك مع تدشين النيجر ومالي وبوركينافاسو ل "كونفدرالية الساحل" في تحالف ينظر إليه بوصفه "محاولة لبناء محور إقليمي جديد قد يقصي الجزائر من التوازنات المستقبلية، كما انخرطت هذه الدول في "المبادرة الأطلسية" التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس، وهي مبادرة تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي ،وهي خطوة مغربية مدروسة لتشكيل تكتل إقليمي جديد يمنح الرباط موقعاً متقدماً في منطقة الساحل، ويعزز حضورها في التعامل مع أوروبا من موقع الفاعل والمبادر، والذي باتت القوى الكبرى تتعاطى معه بنوع من الأمر الواقع، الذي أفرز هذا التأييد للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، خصوصا وأن منطقة الساحل والصحراء تشهد حالياً تنافسا شديداً بين الدول الإقليمية، بعد الانسحاب الكلي لفرنسا من بعض الدول، حيث دخلت كل من روسيا وتركيا والصين وإيران على خط الصراع الدولي لكسب معركة الوجود السياسي بها، وبالتالي وجدت منطقة شمال غرب إفريقيا نفسها مُنْخرطةً في هذا الصراع الدبلوماسي المتزايد باعتبارها مدخلاً إستراتيجيا للنفاذ إلى الساحل، مما جعل المغرب يحظى باهتمامٍ متزايد كفاعل في أي معادلة للتوازن والاستقرار، بعد تصاعد التنافس الفرنسي التركي في العديد من عواصم دول الساحل التي كانت إلى أمد قريب الحليف الأبرز لفرنسا، التي تراجع نفوذها بسبب بوادر التصدع مع أغلبية الأنظمة في المنطقة، خاصة في ظل انفتاح تشاد ومالي والجزائر والنيجر على تركيا مؤخراً، وبات هذا التطور يقلق فرنسا بشكل كبير بعدما تعزز هذا التعاون التركي مع دول المنطقة ليشمل قضايا أمنية وعسكرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
إعادة رسم محاور النفوذ الجيوسياسي حتمت على الدبلوماسية الملكية التقارب مع دول الساحل، التي اختارت أنظمتها العسكرية في باماكو وواغادوغو ونيامي الانفتاح على روسيا والتخلي عن الحليف التقليدي الفرنسي، كما تتجه في الوقت ذاته إلى شراكة مع المملكة، التي رويداً رويداً فرضت نفسها كقوة إقليمية ذات موقع جغرافي استراتيجي، واتصالات دولية مستقرة وأجندة تنموية واضحة، كما أن توتر علاقات هذه الدول مع دول إقليمية أخرى يعزز من أهمية المغرب كشريك بديل في مشاريع البنية التحتية والطموحات الإقليمية.
وبدا من الواضح أن العزلة التي فرضها هذا التحالف على نفسه من خلال الانسحاب من المنظمات الإقليمية التقليدية مثل "الايكواس" يقابله الآن محاولته فتح ممر جديد نحو الأسواق العالمية عبر المحيط الأطلسي. وفي السياق ذاته توترت مؤخرا علاقات هذه الدول مع الجزائر، حيث أعلنت هذه الدول مطلع أبريل الماضي استدعاء سفراءها من الجزائر احتجاجا على إسقاطها لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي في شمال البلاد قرب الحدود الجزائرية أواخر مارس 2025.
واللافت كذلك، أن الأبعاد الميدانية لمخاطر التوغل الإيراني في منطقة الصحراء والساحل، كان مصدر توجس وقلق بالغ للدول الغربية، والتي بادرت هي الأخرى إلى التنبيه إلى خطورة هذا الوجود الإيراني، بعقد منتدى في العاصمة الإسبانية مدريد بمبادرة من معهد كورد بناداس الإسباني للحكامة والاقتصاد التطبيقي يونيو 2023، تحدث فيه أعضاء البرلمان الأوروبي عن تغلغل إيران في منطقة الصحراء والساحل ،بما في ذلك تزويد انفصالي جبهة البوليساريو بطائرات مسيرة مما يشكل تهديداً حقيقياً ويتعين على الاتحاد الأوربي مواجهته.
من زاوية أخرى، فإن توطيد العلاقات الحالية للمملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية في النسخة الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك مع دولة إسرائيل يتوقع منه زيادة الضغوط للتسريع بإيجاد تسوية نهائية عبر تبني بشكل أكثر حسما للمبادرة المغربية كاطار وحيد للتفاوض، لأنها تضمن حفاظ الولايات المتحدة الأمريكية على موطئ قدم في الشمال الغربي لأفريقيا، الذي يشهد تراجعاً للنفوذ الفرنسي وصعودا للنفوذ الروسي، خصوصاً في كونفدرالية دول الساحل التي تساندها روسيا بطرق مختلفة من ضمنها نشر الفيلق الأفريقي في هذه المنطقة، والذي يمكن أن يمتد تأثيره على منطقة الصحراء المغربية وهو سيناريو لا ترغب واشنطن حدوثه.
انسجام مبادرة الحكم الذاتي مع بوصلة الاستقطاب الجيوسياسي القاري امتدت إلى الإتحاد الأفريقي، من خلال دور المغرب المحوري في تزعم التيار الذي يعتمد مقاربة جديدة للاتحاد، تقوم على الاهتمام بالقضايا التنموية من أجل تجاوز المقاربة التقليدية لصالح توجه جديد تحكمه في الأساس المصالح الاقتصادية على حساب الأجندات السياسية، وهو ما أضعف تعاطف الأفارقة مع ملف النزاع حول الصحراء ،أي بمعنى أدق تقديم حسابات السياسة في ثوب الاقتصاد، قد مكن المغرب من جلب تعاطف أفريقي معه في تثبيت سيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية.
من جانب آخر فإن السياسة وحدها ليست هي كل ما يحرك المغرب والجزائر للتقارب مع دول العمق الإفريقي، فثمة عوامل أخرى تفرض هذا التوجه وتأتي في طليعتها محاولة تعويض فراغ التكتلات الاقتصادية في شمال إفريقيا، بعد فشل مشروع المغرب العربي على المستوى الاقتصادي أو على الصعيد السياسي، وقد أصبح الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية خياراً إستراتيجيا تمليه متطلبات العولمة ، ومما يغذي هذا السعي تراجع فاعلية السوق الأوروبية التي كانت شريكاً مهماً لدول الاتحاد المغاربي بسبب الهزات الاقتصادية والأزمات المالية المتلاحقة التي تعصف بالاقتصاد الأوروبي، وكذلك لنزوع دول عديدة في الاتحاد الأوروبي إلى القطع مع الشراكة الأوروبية وفق ضوابط الاتحاد، في ظل سياسات التموقع الذاتي التي باتت تنادي بها تيارات اليمين المتطرف والتي تحظى بحضور وازن في المشهد السياسي الأوروبي الحالي.
هذه الحسابات الجيوسياسية الجديدة، لا تعني بأن المغرب والجزائر قد تخليا عن حساباتهما التقليدية الخاصة والمتعلقة بملف الصحراء، الذي ظل نقطة خلافية جوهرية بين البلدين على مستوى دوائر القرار في إفريقيا.
كذلك ومن منظور جيوسياسي صرف، فإن نجاح الدبلوماسية الملكية في الحفاظ على توازن دقيق في علاقات المغرب الدولية، ساهم في خلق فرص واعدة حول ترسيخ جدوائية المقترح المغربي للحكم الذاتي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فقد فتح المغرب أبواب الاستثمارات للصين وروسيا، في حين أن معظم المصالح الاقتصادية المغربية لاتزال مرتبطة بالدول الغربية.
العلاقة المغربية الصينية لم تعد مجرد تعاون اقتصادي عابر، منذ انخراط المغرب المبكر كأول بلد في شمال أفريقيا في مبادرة "الطريق والحزام الصينية" مما فسح المجال لشراكة استراتيجية، فرضت المزج بين الطموحات الجيوسياسية والمصالح التجارية المتبادلة عبر توافق سياسي غير معلن، يتجنب كل طرف التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، ولعل التزام الرباط الحياد في قضايا حساسة لدى بيكين، كما هو الشأن في شينجيانغ أو تايوان وحتى في التبت، قد قابله ميل الدبلوماسية الصينية شيئا فشيئا نحو تحفظ هو أقرب إلى الحياد، وقد ظهر ذلك أثناء المناقشة والتصويت على قرارات مجلس الأمن الأخيرة بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة.
غير أن العامل البالغ الأهمية والذي سيلعب لصالح المغرب في سياق التحالفات الاستراتيجية الإقليمية، والذي أعطى مغزى لهذا التقارب الصيني المغربي، هو مكانة التميز التي تحتلها دول مجلس التعاون الخليجي بالنسبة للاقتصاد الصيني، وهو المجلس الذي أعلنت دوله وحدة المصير المشترك مع سيادة المملكة المغربية على الصحراء.
من جهة ثانية، سعى المغرب لتحييد الموقف الروسي ولو بشروط في نزاع الصحراء في الوقت الراهن، غير أن تعزيز التعاون الاقتصادي والذي شمل ميادين متعددة بما في ذلك رغبة روسيا إنشاء مناطق تجارة حرة مع أربعة دول عربية في إفريقيا، يتصدرها المغرب وهي دلالات سياسية لنزوح موسكو إلى تعاطي أكثر برغماتية مع التحولات الجوهرية في توازن القوى الإقليمية، خاصة في ظل سعي المغرب لتقوية تحالفه الدولي لدعم موقفه التفاوضي في اتجاه الطي النهائي لهذا النزاع، الذي يشكل بالنسبة للمغرب مرتكز الشراكة والتعاون، مما يفتح مزيداً من الآفاق الجديدة التي قد تغير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة في ظل الدينامية التي يشهدها الملف في السنوات الأخيرة بفضل استراتيجية الانفتاح وتنويع الشركاء.
.png)
