Saturday 19 July 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي: الجراحة المغربية على إيقاع "موزارت" و" عيطة" فاطنة بنت الحسين 

أنور الشرقاوي: الجراحة المغربية على إيقاع "موزارت" و" عيطة" فاطنة بنت الحسين  الدكتور أنور الشرقاوي 
في بداية الثمانينات من القرن الماضي،  دخلتُ لأول مرة غرفة العمليات، طالباً في السنة الرابعة من كلية الطب،  تملأني رهبة الموقف وجلال المهنة.
في قلب تلك الغرفة الباردة، حيث الصمت مهيب والأنفاس مختنقة خلف الكمامات، كان البروفيسور بناصر بن يحيى، جراح الأوعية الدمويّة المغربي الكبير، يعزف بجراحته كما يُعزَف على الكمان.
المشرط في يده يهمس في جسد المريض. 
كل شيء موزون، محسوب، كأننا أمام باليه جراحي... والموسيقى؟ باخ... موزارت... بيتهوفن.
لم تكن مجرد موسيقى تُشغل في الخلفية.
كانت جزءاً من العملية.
كأنها اليد الثالثة للجراح.
تُهدهد توتر الطاقم، تُنظّم دقات القلب، وتبطئ عقارب الزمن كي يُنجز الفعل بدقة وسكينة.
كنا مجموعة من الطلبة نقف خلفه، صامتين، نتنفس بخجل، كمن دخل محراباً لا يُسمح فيه بكلمة.
وكان هو، بشخصيته المرنة، يرقص مع الشرايين، يُعيد إليها الحياة بأنامله الشفافة.
 واليوم، في مغرب 2025، تغيّر الزمن، وتغيرت الإيقاعات .
في بعض غرف العمليات، لم تعد السيمفونيات الأوروبية سيدة اللحظة.
بل حلّت محلّها أنغام الشعبي، دقات البندير، دندنات العيطة، وصوت فاطنة بنت الحسين وهي تشقّ الليل بأوجاعها الشجية.
قد يبدو للبعض الأمر غريباً، بل غير لائق.
لكن الحقيقة؟
هذه الموسيقى تُلهم.
تشدّ من أزر الفريق.
تبعث الدفء في القلوب المتعبة.
وتحوّل غرفة العمليات إلى فضاء عائلي، دافئ، نابض بالحياة.
 الجراح يبتسم وهو يُنهي خياطة دقيقة، على إيقاع أغنية من طفولته.
وكيف يُصفّق قلب المريض - وإن كان غائباً عن الوعي - حين تحيط به طاقة فيها من الحنين أكثر مما فيها من العلم.
فليكن.
إن كانت "العيطة" تُنقذ، و"الركادة" تُرمّم، و"الطقطوقة الجبلية" تُخيط الجراح... فلماذا لا نُصفق؟
الموسيقى، أياً كان مصدرها، تبقى دواءً للروح، ومُعيناً للعقل، وظلاً للإنسانية في صحراء التكنولوجيا الباردة.
تحية للبروفيسور بناصر بن يحيى، الذي كانت جراحاته تُبارَك بأوتار باخ.
واحترام كبير لأولئك الجراحين المعاصرين الذين يرقصون والمشرط في يدهم، على نغمة من تراثهم، لا يخجلون من عشقهم، ولا يعتذرون عن ثقافتهم.
فالطب يحتاج إلى يدٍ ثابتة...
لكنّه أيضاً، في زمننا المتسارع، يحتاج إلى لمسة جمال، وإلى نشيد يُعانق القلب بين نبضتين.
الدكتور أنور الشرقاوي ،  طبيب وخبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي