Friday 6 June 2025
سياسة

التجربة النيابية لمولاي المهدي العلوي كنائب برلماني عن مدينة سلا

التجربة النيابية لمولاي المهدي العلوي كنائب برلماني عن مدينة سلا مولاي المهدي العلوي مع المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ومشهد من البرلمان
إنتقل إلى عفو الله يوم الثلاثاء 3 يونيو 2025 المرحوم مولاي المهدي العلوي أحد القادة التارخيين للحركة الإتحادية و الديلوماسي السابق و النائب البرلماني السابق لمدينة سلا ، وإستحضارا لجانب من إسهامات الفقيد المتعددة والتي دونها في كتاب صدر عن المندوبية السامية للمقاومة و جيش التحرير بعنوان :
"مولاي المهدي العلوي احداث ومواقف" بتوقيع سعيد منتسب ومساهمة محمد بن امبارك . نورد ما تناوله الفقيد مولاي المهدي العلوي عن تجربته البرلمانية:
 
1- التجربة البرلمانية الأولى:
كان المغرب الرسمي قد قطع أشواطا في بناء نموذجه الديمقراطي بإقرار دستور 1962، وأعلن موعد الانتخابات التشريعية في العام الموالي، مما حذا بـ"السي عبد الرحيم بوعبيد" إلى طلب عودتي إلى الرباط لتمثيل الحزب في إحدى الدوائر الانتخابية، بعد اعتماد قرار المشاركة.
كُنت مترددا، لاسيما عندما سمعتُ من "السي بوعبيد" أن دائرتي الانتخابية ستكون هي مدينتي "سلا"، وسأكون في مواجهة أحد رجالات المدينة الذين لايجرؤ أي أحد منّا على مواجهته، وهو "السي بوبكر القادري" برمزيته ومكانته وتاريخه.
كان جوابي التلقائي والصريح على طلب "السي بوعبيد" هو أنه يبقى الأولى بالترشح في مدينة يعرفها ويعرف أهلها، في الوقت الذي كنت أدرك حجم الإحراج من المواجهة التي يمكن أن نقع فيه جميعا بعد قرار حزب الاستقلال اختيار الأستاذ أبي بكر القادري مرشحا للحزب في المدينة.
ولما كانت العلاقة التي تجمع بين الرجلين على قدر كبير من الاحترام المتبادل، فإني أعلم أن "بوعبيد" لن يقدم على مواجه "القادري" في أيه ساحة انتخابية، لذلك اختار "الاتحاد الوطني" ترشيحه في مدينة "القنيطرة" القريبة.
وبالفعل استجبت لطلب إخواني في الحزب وعُدت إلى أرض الوطن وقُدت حملة انتخابية موفقة، بمساعدة كافة أعضاء القيادة، إذ حضر معي "عبد الرحيم بوعبيد" في أول تجمع انتخابي، وترأس "الفقيه البصري" التجمع الثاني، وشارك "المهدي بن بركة" في تجمع آخر من التجمعات الاتحادية بالمدينة.
وفي لُجة حملاتي الانتخابية، طلب مني "المهدي" أن أنوب عنه في رئاسة التجمع الانتخابي المنظم بمدينة "وزان" على أن يتفرغ لتجمع آخر في مدينة "الدار البيضاء"، فتوجهت إلى المدينة الجبلية وألقيت فيها خطابا ما ظننت أنني أعدته مرة أخرى، تُوج بنجاح منقطع النظير، مما شجعني على مواصلة سلسلة التجمعات بدءا من "سوق أربعاء الغرب"، وصولا إلى مدينة سلا، التي ألقيت فيها خطاب اختتام الحملات.
قُدنا حملة انتخابية ناجحة بامتياز نظرا لمعرفتي بمدينتي، إذ عملت قبل الانطلاق على رصد الأماكن التي ستعقد فيها التجمعات الخطابية، وسجلتها لدى باشا المدينة "عبد الرحمن عواد"، الذي كانت لي به معرفة سابقة بحكم صداقته لوالدي، وكان قد واجهني بسؤال عما سأبرر به مواجهتي للمرشح المنافس "سيدي بوبكر القادري"، فكان جوابي أنني سأعالج الأمر بطريقتي الخاصة.
إثر ذلك، قررت التوجه إلى بيت "السيد أبو بكر القادري"، فطلبت مقابلته بعد انصراف عدد من الأشخاص الذين كانوا معه في حملته الانتخابية، فبدأت بذكر أفضاله على الوطن وعلى المدينة، وأعدت على مسامعه تقديري الكبير لشخصه وحفظي للود الذي أكنه له، والعلاقة التي تربطنا جميعا بهذا البيت، الذي كان المكان الأول الذي أديت فيه قسم الإخلاص للوطن والكفاح من أجل وحدته واستقلاله.
أكدت لمخاطبي أن هدف مشاركتي في الانتخابات باسم حزبي ليس هو الفوز، بل هو تكريس قيم الديمقراطية التي ننشدها جميعا في أفق بناء بلد عصري بمؤسسات ديمقراطية تستجيب لطموحات الشعب المغربي، وتكريس المنافسة الانتخابية في أجواء تطبعها الحرية والنزاهة لتشكيل برلمان مُنتخب بشكل ديمقراطي، وأن الهدف في النهاية سيكون هو تعزيز استقرار البلاد وعزتها، وقد كنت أتحدث إلى الرجل وأنا على قناعة تامة بكل كلمة أقولها.
تركتُ بيت "السيد القادري"، بعد أن سلمته مطبوعا حددتُ فيه أماكن وتوقيت التجمعات، وطلبت منه أن يتصرف بما يراه مناسبا في برمجة لقاءاته حسب ما يراه من أولويات تخدم حملته، ثم عدت إلى المكتب وحكيت ما وقع للجنة الحزبية المكلفة بالانتخابات، وكان موقفهم هو الرفض الحاد لـ "كل ما قدمته من تنازلات لصالح المرشح المنافس"، في اعتقادهم.
أصررت على موقفي مؤكدا أن السياسة أخلاق أولا وقبل كل شيء. وأعدت على مسامعهم تاريخ "أبي بكر القادري" في النضال والوطنية بالمغرب وفي مدينة سلا بالذات. فهذا الرجل، الذي أنافسه في الدائرة الانتخابية، لم يكن إلا أحد القادة الوطنيين الذين ساهموا في إحداث كتلة العمل الوطني٬ ثم جمعية الشباب المسلم، كما شارك في تأسيس الحزب الوطني سنة 1937 وحزب الاستقلال سنة 1944. وفي سنة 1958 ٬ شارك بشكل فعال في تنظيم مؤتمر طنجة لتحقيق حلم المغرب العربي الموحد، وفي 1960 تم تعيينه في المجلس الدستوري. كما أن مواقفه الوطنية معروفة في جميع الأوساط، مثل مقاومته للظهير البربري المشؤوم، وتوقيعه على وثيقة المطالبة بالاستقلال٬ كما أسندت له عدة مهام من بينها عضو بالمجلس الوطني الاستشاري الذي كونه السلطان محمد الخامس. فما كان منهم، في النهاية، إلا أن قبلوا مبادرتي، وانطلقت الحملة الانتخابية من أمام المحل التجاري لوالدي، وقد تعمدت ذلك لأضمن انخراط أصدقاء الوالد ودعمهم لي، في الوقت الذي كنت أضع فيه نصب أعيني حيازة ثقة الشباب والنساء، الذين يشكلون كتلة انتخابية مُعتبرة.
انتهت الحملة الانتخابية، وحان موعد التصويت، فكانت النتيجة مفاجئة لكل سكان مدينة "سلا"، إذ حصلت على أصوات يفوق عددها ما حصل عليه الأستاذ "أبو بكر القادري" والأستاذ "الحاج أحمد معنينو"، وهما قطبان من أقطاب الوطنية، نعتز بهما جميعا، وتعتز بهما كل ساكنة مدينة سلا.
 

مولاي المهدي في عز الحملة الانتخابية لعام 1963، والتي توجت بانتخابه كأول نائب برلماني لمدينة سلا، ويبدو في الصورة حضور المهدي بن بركة لدعم ترشحه

 
في الوقت الذي كُنا في السجون والأقبية السرية والعلنية، كان بعضنا مايزال يتحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الشعب التي جُرّد منها، بعد انتخابه ممثلا للسكان في البرلمان، إثر تحقيق "الاتحاد الوطني" لانتصاره الكبير في الانتخابات التشريعية التي سبقت الكشف عن "المؤامرة" المزعومة.
وحيث أني كنت من الفائزين بمقعد في البرلمان عن دائرة "سلا"، فقد كان علي أن أنجز عددا من المعاملات الإدارية، قبل الالتحاق بالمجلس النيابي، بعد خروجي من السجن وأباشر مهامي ضمن فريق الحزب، بعد جلسة التعارف مع الأعضاء، وكذا الشخصيات الممثلة للاتجاهات السياسية الأخرى.
 

مولاي المهدي في مهرجان خطابي بمدينة سلا، أثناء خوضه غمار أول انتخابات تشريعية بالمغرب عام 1963

 
كان المجلس، آنذاك، يعج بأسماء مميزة لشخصيات من عيار ثقيل بصمت تاريخ المغرب، من بينها، على سبيل المثال الزعماء "علال الفاسي" و"محمد بلحسن الوزاني" و"عبد الخالق الطريس" و"عبد الرحيم بوعبيد" و"محمد منصور" و"عبد اللطيف بن جلون" وغيرهم..
ونظرا لحداثة عهدي بجلسات المجلس، فقد كنت، في أيامي الأولى، أكتفي بالإنصات للمداخلات المبرمجة في الجلسة العامة وفي جلسات اللجان، لاستيعاب ما يجري حولي من أحداث واستقراء الاتجاهات، التي تعبر عن رؤية كل فصيل للمشهد السياسي ووضعية البلد، بعد الفترة التي كنا مغيبين فيها قسرا عن تتبع مجريات الأمور.
ومما أثار انتباهي في هذه الفترة ضعف التنسيق بين أحزاب الصف الوطني، مما حدَّ من نجاعة المواجهة التي كان يتعين أن نقوم بها متحدين ضد الأغلبية "المصنوعة" من "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" FDIC، التي ينشط أعضاؤها لتمرير السياسات الرسمية، التي كنا نعتبر أن أغلبها لا يخدم مصالح الوطن والمواطنين.
 

الباحث والصحافي الفرنسي، روبير بارا، يهنئ مولاي المهدي العلوي إثر فوزه في الانتخابات التشريعية 1963

 
في افتتاح دورة أكتوبر عام 1964، توزع النواب على اللجن البرلمانية، فاخترت الانضمام للجنة الخارجية، بحكم مساري واهتماماتي وعلاقاتي بعدد من الجهات بالخارج، في الوقت نفسه الذي سجلتُ نفسي كذلك ضمن أعضاء لجنة الداخلية، بطلب من صديقي الدكتور "محمد الحبابي".
حضرت الاجتماع الأول لهذه اللجنة وشاركتُ بحماس في مناقشة عرض وزير الداخلية، بحضور كل من الجنرال "أوفقير" و"الدليمي"، وبدأت المناقشة حول سؤال طرحه أحد نواب "الجبهة" عن وضعية السجون في المغرب، وتحديدا نوعية الطعام الذي يُقدم للسجناء، فكانت إجابة "الدليمي"، المسؤول عن إدارة السجون وقتها أنه في العموم يتم احترام جدول تغذية متوازن يفي بحاجيات النزلاء.
وقال "الدليمي" إن هذا لا يعني أن اللحوم تُقدم للسجناء في كل يوم، بل تجتهد الإدارة، حسب الإمكانيات المتاحة لتقديم أنواع من الحساء والخبز والقطاني، إضافة إلى قطع من اللحوم في بعض الأحيان، فضلا عن وجبة "الكسكس" كل يوم جمعة.
استفزني هذا الكلام وأنا الخارج لتوي من المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، فعقبت على كلام المسؤول بكلام واضح، مفاده أن ما يقدم من وجبات للسجناء لا يليق ببني آدم، فالشربة عبارة عن ماء ملون تسبح فيه الحشرات (الما والزغاريت كما يقول المغاربة بلهجتهم المحلية)، بينما الخبز مجرد قطع من الدقيق الرخيص، الذي مرت أيام على طهيه (خبز كارم تهرس بيه راسك)، أما وجبة "الكسكس" الذي يقدم أيام الجمعة، فيُستحسن أن لا أذكرها.
ولما ارتفعت نبرات صوتي، قام "أوفقير" من مكانه، فأحدث الكرسي صريرا يعكس حالة الغضب التي استبدت بالجنرال، في حين بقي الحاضرون صامتين، في حالة اندهاش وذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، يتوقعون ردة فعل المسؤول ورفيقه "الدليمي".
وقبل أن يُغادر القاعة، مرّ من خلفي "أوفقير" وربت على كتفي، ووجه لي كلاما باللغة الفرنسية قائلا:
من دون ضغينةSans rancune
فأجبته:
طبعا، من دون ضغينة Evidemment, sans rancune
بعد هذه المواجهة، كُتب عليَّ أن أقود مواجهة في جلسة أخرى كانت هذه المرة مع وزير الدفاع "الماريشال أمزيان"، الذي حل بالمجلس لمناقشة ميزانية وزارته، وإذا به يصعد إلى المنبر ويتلو فاتحة القرآن ثم يعود إلى مكانه، من دون أن يقدم العرض الذي يتعين أن يقدمه أمام النواب لمناقشة الميزانية.
هنا طلبتُ الكلمة، لأعرب عن استغرابي ممّا كان من أمر الوزير، فاعتبرت أن ذلك ينم عن احتقار لدور النواب، وسلطة الرقابة التي منحها المشرع للمجلس، الذي لا يمكن لأعضائه أن يمنحوا شيكا على بياض لأي وزير للتصرف في شؤون وزارته وفق ما يشاء، فمن الواجب أن يقدم الوزراء دفوعاتهم عن مبررات الميزانيات التي يشرفون على صرفها.
وأنا أترجل من المنصة عائدا إلى مكاني بعد انتهاء مداخلتي، اعترضتني يدُ الراحل "علال الفاسي"، فشكرني على ما قلته عن قناعة فيما يجب أن ينظم العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية، بيد أنه أومأ لي بأنه لن يضيرنا إذا غضضنا الطرف عن الجيش، وتجنبنا فتح معركة جانبية مع هذه المؤسسة، نحن في غنى عنها.
بعد ذلك، أتى الدور على ميزانية وزارة التعليم، فتناولت الكلمة لأصف السياسة المتبعة في هذا القطاع بأنها تكرس "الطبقية". فاستفز هذا الوصف رئيس الجلسة حينها الدكتور "عبد الكريم الخطيب"، فحدثت لي مشادة كلامية معه، غادرت إثرها المنصة وعُدت إلى مكاني.
وسأعود مرة أخرى لمناقشة سياسة الوزارة نفسها على عهد الوزير الدكتور "يوسف بلعباس"، إذ توقفت عند حوادث مارس 1965، التي أعقبت المظاهرات التي اندلعت في الدار البيضاء، وانتقلت إلى مختلف المدن المغربية، احتجاجا على قرارات الوزارة بمنع التلاميذ البالغين سن 17 سنة من تكرار الأقسام، حينها بدأ أحد أعضاء "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" في استفزازي، مما أجبرني على الرد عليه بقوة، رافضا قبول إجابة الوزير الذي وصف المتظاهرين بالشغب وبأنهم مدفوعون من طرف من له مصلحة في حدوث مثل هذه الأحداث.
إثرها توقفت الجلسة، ولم يجتمع المجلس بعدها أبدا، لأن الملك الحسن الثاني قرر حل البرلمان، وذلك بعد الزخم السياسي الضاغط الذي قادته المعارضة التي كان يقودها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، منذ أن تولى الحسن الثاني العرش خلفا لوالده الذي وافته المنية بعد عملية جراحية بسيطة على الأنف، مرورا بالتصويت على دستور سنة 1962، وما تلا ذلك في أول استحقاقات تشريعية عرفها المغرب سنة 1963، ثم ملتمس الرقابة لإسقاط حكومة أحمد با حنيني في 1964، وانتهاء بالإعلان من طرف الملك الحسن الثاني عن حالة الاستثناء وحل البرلمان شهرين بعد اندلاع أحداث الدار البيضاء في مارس من سنة 1965، والتي سقطت فيها أعداد من القتلى، وزج بأعداد أخرى في السجون.
لقد قاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية معارضة شرسة، بلغت أوجها في جلسة افتتاح البرلمان التي يترأسها الملك، حين قرر نواب الاتحاد في البرلمان نزع اللباس التقليدي الذي تعودوا ارتداءه في مثل هذه المناسبة، والمتمثل في الجلباب الأبيض والسلهام والشاشية الحمراء، التي اعتبروها رمزا للعبودية. أما البديل فقد كان هو اللباس العصري، لكن بدون ربطة عنق لكي لا ينعت رفاق المهدي بن بركة بالليبراليين.
كان رد الحسن الثاني قاسيا بعد هذا الموقف، الذي قرأ فيه الكثيرون أكثر من رسالة تمكن الاتحاديون من إيصالها للملك، ومن خلاله لكل الرأي العام.
أما الملك الراحل فقد قرر ألا يتابع هؤلاء الذين أعلنوا عصيانهم عما سماه الحسن الثاني بالتقاليد الإسلامية، خطابه إلا من قاعة مجاورة. قبل أن يهدد بحل الحزب بصفة نهائية، بمبرر أن هؤلاء خرجوا عن ملة الجماعة، ويحق فيهم الحل عملا بمنطوق الدستور الذي يعطي للملك صفة أمير المؤمنين.
تراجع الحسن الثاني بتوصية من بعض مستشاريه الذين كان يستمع لبعضهم بشكل جيد، كما هو الحال مع الراحل عبد الهادي بوطالب الذي سيرافقه في الكثير من المحطات السياسية الحاسمة.
 
مولاي المهدي العلوي ، بطاقة النائب البرلماني عن دائرة سلا 1963
 
2- التجربة البرلمانية الثانية:
بعد عودتي إلى المغرب، أوائل شهر دجنبر 1978، بطلب من إخوتي في الحزب للمشاركة في انتخابات عام 1984 عن دائرة سلا، تبين لي أن الفوز ممكن في ظل الامتداد الجماهيري الكبير لحزبنا في ذلك الوقت، فانكببت رأسا على التنسيق مع إخواني في القيادة لرسم معالم المرحلة المُقبلة، لاسيما بعد فوزي بانتخابات الدائرة الانتخابية، وتمكن الحزب من تشكيل فريق برلماني مهم ومُؤثر قادر على العمل من داخل المؤسسة التشريعية، والتعبير عن اختياراته التي تبناها في هذه المرحلة المهمة من تاريخ البلاد.
وقد جرت الانتخابات المذكورة في ظل المتغيرات التي شهدتها البلاد وشهدها الحزب الذي كنت أعتقد، بعد عودتي إلى المغرب، أنه حسم، إلى غير رجعة، إستراتيجيته وأهداف عمله بعد المؤتمر الاستثنائي للعام 1975، الذي شكل قطيعة، في نظري، مع بعض الأفكار "الثورية"، لكنني فوجئت بأن تلك الأفكار ما تزال تُحرك فصيلا من المناضلين المرتبطين بعلاقة مع الفقيه محمد البصري في الخارج، حينئذ.
 

مولاي المهدي العلوي والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد

 
ولن أتردد في التعبير عن قناعتي الثابتة حتى الآن في كون توجه الفقيه البصري، لم يكن الأفضل أبدا للحزب، ولا للبلاد، وأن الاختيار الذي أقره المؤتمر الاستثنائي، أي النهج الديمقراطي، كوسيلة لتحقيق الاختيار الاشتراكي (التقرير الإيديولوجي)، يُعد الأفضل. وهذا ما كنا مقتنعين به نحن غالبية أعضاء المكتب السياسي وأعضاء اللجنة الإدارية، مستحضرين دروس العام 1963 (ما يُعرف في الأدبيات السياسية بالمؤامرة)، والتي كادت أن تعصف بالحزب وتأخذه إلى الهاوية.
وفي رأيي، إن المجموعة الغاضبة في الحزب كان لدى بعضها طموحات التمثيلية في اللجنة الإدارية، ومنها العبور إلى الأجهزة القيادية، للتحكم في القرار الحزبي، وتوجيهه في الاتجاه الذي يخدم برنامجها ومصالحها، مما أضاع على الحزب وقيادته وقتا كبيرا تم تبديده في النقاش العقيم وغير المفيد، وهو سجال جعل الكاتب الأول السي عبد الرحيم بوعبيد، يرزح بين ناري إصرار مناضلي الداخل على القطيعة مع "خيار المواجهة"، وطموحات مناضلي الخارج للاستمرار في هذا المنحى التصعيدي، مما جعل المكتب السياسي يشتغل في أجواء غير مريحة على الإطلاق.
غير أن ما يجب ذكره في هذا السياق، هو أن وجودي في البرلمان في العام 1984 يختلف عما كان عليه الأمر في العام 1963، عندما انتخبتُ عضوا في هذه المؤسسة المُحترمة لأول مرة. فقد أتاحت لي هذه العودة فرصة تمثُّل المعاني الحقيقية لمفهوم "حتمية التغيير"، كما نظَّر لها المناطقة والفلاسفة. ووقفت على ما تغير في فضاءات المجلس بعد طلاء الجدران بأصباغ الحداثة، التي تستلهم التاريخ، و"طُلاء" بعض الوجوه بألوان الأحزاب "الجديدة"، في الوقت الذي بقيت فيه "الإدارة" وفية لمنظورها المسيء لـ "الديمقراطية"، فظلت تعمل على توظيفها في ما يخدم مصالحها بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى.
وبعيدا عن النوستالجيا والحُلم، انصهرتُ في العمل البرلماني من خلال الواجهة الدبلوماسية السياسية، بحكم شبكة العلاقات التي أقمتها خلال وجودي في الخارج، وفيما بعد خلال فترة تكليفي بعلاقات الحزب الخارجية، حيثُ انتُدبتُ، ضمن وفود الأحزاب السياسية، لمرافقة الوفد الرسمي لحضور أشغال مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية المنعقد في أديس أبابا، وهو المؤتمر الذي سيعبر فيه المغرب عن موقفه الرافض لقبول عضوية جبهة البوليساريو في المنظمة، وإعلان انسحابه منها في لحظة إجماع وطني، مُفعمة بالمشاعر. فالرجل منَّا يموت واقفا دفاعا عن دينه وعن عرضه وعن أرضه.