Wednesday 17 December 2025
كتاب الرأي

الصادق العثماني: فقه الدولة في الإسلام.. مقاربة مقاصدية للقوانين التنظيمية المعاصرة

الصادق  العثماني: فقه الدولة في الإسلام.. مقاربة مقاصدية للقوانين التنظيمية المعاصرة الصادق العثماني
في خضمّ الجدل المحتدم الذي تثيره بعض الجماعات الإسلامية بالمغرب حول ما تسميه «كفر القوانين الوضعية» و«مخالفتها للشريعة الإسلامية»، يبرز واجب علمي وفقهي وحضاري يقتضي إعادة وضع المسألة في سياقها الصحيح، بعيداً عن التبسيط المخلّ، وعن منطق التكفير والمزايدة على الدين، وبمنهجية تجمع بين أصول الفقه، ومقاصد الشريعة، وفقه الواقع، وسنن العمران الإنساني .

 إن الشريعة الإسلامية، في ضوء بنيتها المقاصدية، لم تُنشأ بوصفها نسقًا نصيًا تفصيليًا مغلقًا يستوعب جميع الجزئيات المتغيرة عبر الأزمنة، وإنما قُصِد بها أن تكون منظومة هادية تقوم على مقاصد كلية وقواعد عامة وأصول ضابطة، تتيح للعقل الاجتهادي فاعلية التأويل والتنزيل، بما يضمن استمرارية الشريعة وقدرتها على مواكبة التحولات الاجتماعية والتشريعية، وتحقيق مقاصدها العليا في جلب المصالح ودرء المفاسد وفق مقتضيات الواقع .

 وقد عبّر الإمام مالك بن أنس عن هذا المعنى بوضوح حين جعل المصلحة المرسلة أصلاً معتبراً، وكان يقول ـ كما نقل عنه أصحابه ـ إن «الأمر إذا نزل بالناس مما لا نص فيه، نُظر فيه بما يصلحهم». وهو ما يدل على أن التشريع ليس حبسا للنص، بل تنزيلٌ له على واقع متغير.

وقد قرر إمام الحرمين الجويني في البرهان أن الوقائع لا تتناهى، والنصوص متناهية، ولولا فتح باب الاجتهاد المبني على المصالح لتعطلت الشريعة، مؤكداً أن «مقصود الشرع الأعظم هو حفظ النظام العام للأمة، وصيانة المصالح الكلية التي لا قيام للناس بدونها». وهذا الكلام يهدم من جذوره دعوى أن كل تنظيم قانوني خارج عن النص التفصيلي هو بالضرورة خروج عن الشريعة.

أما الإمام أبو إسحاق الشاطبي، فقد أسّس في الموافقات ثورة منهجية حقيقية، حين قرر أن الشريعة «إنما وُضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل»، وأن الأحكام الجزئية لا تُفهم إلا في ضوء كلياتها ومقاصدها. وصرّح بوضوح أن «الوقوف مع ظواهر النصوص دون اعتبار المقاصد مآله إلى تعطيل الشريعة نفسها»، وهو تحذير بالغ الدلالة في الرد على من يتخذ من ظاهرية متشددة جسراً إلى التكفير.

ومن هذا المنطلق المقاصدي، فإن القوانين المنظمة لحياة الناس اليوم ــ سواء تعلقت بالملاحة البحرية، أو الإدارة، أو الزراعة والفلاحة، أو الشركات، أو تأسيس الجمعيات والأحزاب، أو تنظيم المعاملات الاقتصادية، أو حماية البيئة، أو السلامة المهنية ــ لا تُنشئ ديناً جديداً، ولا تنازع الشريعة في مصدرها الإلهي، وإنما تؤطر مجالات لم يرد فيها نص تفصيلي ملزم، وتندرج في نطاق «السياسة الشرعية» و«المصالح المرسلة» كما تدخل ضمن «منطقة العفو». كما جاء في الحديث الشريف: "إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا"  (رواه الدَّارقُطْني وَغَيْرهُ) .

و "منطقة العفو" عند الفقهاء تعني المجالات التي سكت عنها الشرع نصاً (لا حكماً) بقصد، فتُترك لتقدير ولي الأمر أو اجتهاد المكلف، وتكون غالباً مباحة أو تدرج ضمن المصالح المرسلة لرفع الحرج..وقد اعتبر ابن القيم رحمه الله أن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها..، ثم قرر قاعدته الشهيرة: «فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل».

ومما قرره العلامة الطاهر بن عاشور ـ بمعناه ـ أن التشريع الإسلامي لا يعارض سنّ الأنظمة والقوانين التنظيمية التي تفرضها المصلحة العامة والحضارة، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة. وأكد رحمه الله في مقاصد الشريعة الإسلامية أن «التشريع الإسلامي لا ينافي سنّ القوانين التنظيمية التي تقتضيها الحضارة وتفرضها مصلحة الاجتماع الإنساني»، بل اعتبر أن تعطيل هذه القوانين باسم الدين «سوء فهم لمقاصد الإسلام، وإضرار بمصالح الأمة». وقرر أن الدولة ملزمة شرعاً بوضع القوانين التي تمنع الظلم وتنظم الحقوق، ولو لم يرد بها نص خاص، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة.

وعليه، فإن القول بأن كل قانون وضعي هو كفر وخروج عن الدين يقوم على خلط خطير بين التشريع التعبدي التوقيفي، الذي لا مجال للاجتهاد فيه، وبين التنظيم المصلحي الاجتهادي الذي تتغير صوره بتغير الأحوال. فالشريعة لم تحدد شكل الدولة، ولا نمط الإدارة، ولا تفاصيل المعاملات الحديثة، لكنها حدّدت الغايات الكبرى التي يجب أن تُحكم بها هذه المجالات، من عدلٍ، وأمان، وحفظٍ للحقوق، ومنعٍ للفساد.

إنكار هذا الامتداد الاجتهادي، ووسم القوانين الحديثة بالضلالة أو الكفر، ليس تعظيماً للشريعة، بل تضييق عليها، وهو ما حذر منه الشاطبي حين قال: "التشديد في موضع التيسير خروج عن مقصود الشارع" يعني أن التشديد الذي لا مبرر له ولا يتفق مع روح الشريعة في رفع المشقة والحرج، يعتبر مخالفًا لهدف الشارع الأصلي، وهو جلب المصالح مع دفع المفاسد وتيسير التكاليف على الناس، وهذا يظهر في كتابيه "الموافقات" و"الاعتصام" حيث يوضح أن الشارع قصد رفع المشقة غير المعتادة ومخالفة الهوى، وأن التشديد المبالغ فيه يخرج عن هذا المقصد ويؤدي إلى إعنات المكلفين..كما أن هذا المسلك يفضي عملياً إلى تعطيل مصالح الناس، ونشر الفوضى، وفتح أبواب الغلو والعنف، باسم دين جاء رحمة للعالمين .

ثم إن الاجتهاد في هذه المساحات ــ كما قرره النبي ﷺ ــ مأجور في جميع الأحوال، إصابةً أو خطأً، فكيف يُجعل محل تكفير وتفسيق؟ وكيف يُحوّل الخلاف الاجتهادي إلى صراع عقدي؟

إن العقل والدين في الإسلام متكاملان لا متصادمان، والتشريع ليس نقيض التنظيم، بل روحه وغاياته. أما اختزال المسألة في ثنائية ساذجة: «إما شريعة سماوية أو قانون وضعي كافر»، فهو منطق غريب عن تراث الفقه الإسلامي، ومخالف لمقاصده، ومنقطع عن سنن الاجتماع البشري.

وختاما، إن القوانين الوضعية التي لا تصادم نصاً قطعياً، ولا تهدر مقصداً شرعياً معلوماً، بل تحقق العدل وتنظم المصالح وتدفع المفاسد، هي داخلة في دائرة الشرع من حيث المقاصد، وفي دائرة الاجتهاد من حيث الوسائل، ولا يجوز بحال تكفير المجتمعات أو الدول بسببها. أما الغلو في هذا الباب، فليس دفاعاً عن الشريعة، بل إساءة إليها، وتشويه لرسالتها، وإغلاق لباب الرحمة التي بُعث بها النبي ﷺ .
 
 
الصادق  العثماني- أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية