أن تكون مسلمًا في أوروبا هنا والآن يعني أن تواجه واقعًا متشابكًا من الفرص والتحديات، تتفاعل فيه الهوية الدينية مع بيئة ثقافية وسياسية معقدة، تتأثر بشدة بصعود اليمين المتطرف الذي يستثمر مخاوف اقتصادية واجتماعية لتوسيع قاعدته. في السنوات الأخيرة أظهرت الدراسات الرسمية أن المسلمين في الاتحاد الأوروبي يواجهون معدلات متزايدة من التمييز والعنصرية في حياتهم اليومية، ويبلغ ذلك في بعض الدول مستويات مرتفعة جدًا، بارتباط واضح بنمو الأحزاب اليمينية المتطرفة والسياسات المعادية للهجرة والأقليات. تشير بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية (FRA) إلى أن ما يقرب من نصف المسلمين في الاتحاد الأوروبي (47٪) أبلغوا عن تعرضهم للتمييز العنصري خلال السنوات الماضية، مقارنة بنحو 39٪ قبل عام 2016، مع تباين بين الدول حيث سجلت النمسا (71٪)، ألمانيا (68٪) وفينلندا (63٪) أعلى نسب من التمييز. في بعض الحالات، وصلت هذه التوترات إلى سياسات ومواقف رسمية وأحكام محلية أثارت جدلًا واسعًا حول مكانة المسلمين في الفضاء العام الأوروبي، مثل قرار النمسا حظر الحجاب في المدارس للبنات تحت سن 14 عامًا والذي انتُقد باعتباره يزيل الحقوق الدينية ويميز ضد المسلمين بذريعة حماية الحرية الخاصة، ما يؤشر إلى تحول الخطاب السياسي نحو تجريم الرموز الدينية تحت ذرائع مختلفة. ورغم تباين التجارب من بلد لآخر في أوروبا، هناك اتجاه عام لتصاعد خطاب الإسلاموفوبيا وأشكالٍ متعددة من التمييز والانكشاف على العنف اللفظي والجسدي، ما يجعل الحياة اليومية للمسلمين في كثير من الأحيان أكثر تعقيدًا من الاندماج البسيط ويتخطى حتى فضاءات العمل والسكن إلى الشعور بعدم الأمان والانتماء الكامل.
اليمين المتطرف: لماذا يشكل تحديًا خاصًا على المسلمين؟
يعتمد يمين أوروبا المتطرف غالبًا على خطاب يستهدف الإسلام والمسلمين كـ«قوة خارجية أو تهديد للهوية الوطنية»، ليحوّل قضايا اجتماعية واقتصادية إلى أزمات ثقافية. وتشير تقارير مراقبين إلى أن جزءًا من هذا الخطاب يقوم على استغلال صور نمطية وتاريخية معاصرة لتحفيز المخاوف من «أسلمة أوروبا» أو ادعاء أن المسلمين يشكلون خطرًا على التقاليد القديمة. في بعض الدول، يستخدم اليمين المتطرف التاريخ والسياسات المحلية لتحفيز مشاعر العداء، كما يظهر في حالات متعددة بإسبانيا حيث يستند بعض نشطاء اليمين إلى سرديات تاريخية عن «الغزو الإسلامي» في شبه الجزيرة الإيبيرية، ما يُستخدم لتحريض الرأي العام ضد المسلمين كجماعة قائمة بذاتها، وليس فقط كمهاجرين أو مواطنين.
وفي هذا السياق، يرى محللون أن اليمين المتطرف لا يتعامل مع المسلمين كجزء من المجتمع الأوروبي بقدر ما يصورهم كـ«آخر» يجب الحد من وجوده وتأثيره، مستخدمًا في كثير من الأحيان لغة وصور متطرفة تستغل الخوف من التغيير والتعددية.
التمييز في العمل والمجتمع: انعكاس للسياسات والخطابات
التمييز ضد المسلمين في سوق العمل والسكن يظهر كشكل آخر من أشكال العداء الذي يعزز الشعور بـ«الاختلاف» بدلاً من الاعتراف بالمساواة. نتائج مؤسسات حقوقية تبين أن المسلمين يواجهون صعوبات أكبر في العثور على عمل أو سكن مقارنة بأشخاص آخرين بنفس المستوى المهاري والخلفية اللغوية، ما يعكس عوائق هيكلية في المجتمع مرتبطة بعدم المساواة والتصورات السلبية تجاههم. هذا الواقع لا يرتبط فقط بسلوكيات أفراد أو مجموعات محدودة؛ بل يرتبط بخطابات وسياسات عامة يمكن أن تُستخدم – عن قصد أو غير قصد – لتبرير الفصل الاجتماعي أو العزل الجماعي. في ظل هذه الظروف، يصبح السؤال حول ما يعني أن يكون المرء مسلمًا في أوروبا أكثر من مجرد سؤال عن ممارسة الشعائر؛ بل عن مكانة الإنسان المسلم في مجتمع متعدد الثقافات وكيفية ضمان حقوقه الأساسية في ظل أصوات سياسية تستهدفه.
دور المعرفة الأكاديمية: منهج لفهم نقدي وتفاعل حضاري
في مواجهة هذه التحديات المعقدة، يصبح الفهم المعمّق للدين والثقافة والهجرة – كما يُدرس في برامج أكاديمية مثل ماستر الدين والهجرة والثقافة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ـ الذي يشرف عليه مولاي احمد البوكيلي، وأساتذة أجلاء بسخاء باذخ – أداة حيوية لفهم ديناميات المجتمع المعاصر. فهذه البرامج تقدم ما هو أكثر من تحليل ثقافي؛ إنها تسمح للطلاب والباحثين بفهم الهجرة والدين كظواهر اجتماعية وحضارية متشابكة، في روابطها التاريخية والمعاصرة، مع تركيز على القيم الإنسانية المشتركة التي يمكن أن تعزز من إمكانات التعايش في بيئات متعددة الثقافات. تتيح هذه المناهج أيضًا قراءة نقدية للمفاهيم التي يستخدمها كل من السياسيين، الإعلام، والمجتمعات نفسها في تشكيل تمثلات عن الدين والهوية. بذلك، لا تقتصر الدراسة على النظريات فحسب، بل تفتح آفاقًا لتطبيقها في السياسات العامة والحوار بين المجتمعات المختلفة، حاضنًا للحوار الحضاري بدلًا من التصادم.
التدين المغربي كأفق للتعايش: نموذج معرفي وإنساني
في هذا الإطار، يُمكن أن يكون التدين المغربي الوسطي – الذي يحث على الاعتدال، الحوار، واحترام التعدد – نموذجًا معرفيًا قويًا لفهم التعايش والحوار الحضاري في أوروبا. هذا النهج لا ينكر الهوية الدينية للمسلمين، لكنه يضعها في سياق قيم إنسانية كونية تؤكد على الكرامة والاحترام المتبادل، وتعيد قراءة الدين كعاملٍ يثري المجتمع لا كعنصرٍ معزل أو مهدد. بذلك، يصبح التدين المغربي الوسطي أكثر من ممارسة روحانية؛ إنه أداة اجتماعية وثقافية لدفع خطاب التعايش، ومضادًا للخطابات العنصرية أو الضيقة التي يمارسها اليمين المتطرف. وهو يقترح تعايشًا متوازنًا بين الانتماءات، يعترف بالتعددية ويحث على بناء مجتمع يضمن الحقوق دون إخراج أي طرف من دائرة الإنسانية المشتركة.
مسلمو أوروبا بين الإقصاء والحوار
أن تكون مسلمًا في أوروبا هنا والآن يعني أن تواجه تحديات حقيقية في ظل صعود اليمين المتطرف والسياسات المعقدة للاندماج. لكن هذه التحديات نفسها تفتح الباب لإعادة طرح أسئلة جوهرية عن الهوية، الانتماء، والعيش المشترك. في هذا السياق، لا يمكن التقليل من أهمية التحصيل العلمي المتعمق في الدين والهجرة والثقافة، خاصة في برامج مثل تلك التي تقدمها كلية الآداب بالرباط، كمنهجٍ لفهم هذه الإشكالية وتقديم أدوات فكرية لتعزيز الحوار الحضاري. في النهاية، يصبح الجواب عن سؤال «ماذا يعني أن تكون مسلمًا في أوروبا هنا والآن؟» جزءًا من نقاش أوسع حول القيم المشتركة، العدالة، واحترام التعدد – وهو نقاش يتطلب منا جميعًا – أكاديميين وسياسيين ومواطنين – أن نعيد التفكير في مفهوم الإنسانية المشتركة في عالمٍ متغير.

