الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

مولاي عمر صوصي: مقاصد الحرب بين الشرق والغرب (3/1)

مولاي عمر صوصي: مقاصد الحرب بين الشرق والغرب (3/1) مولاي عمر صوصي
إن المتتبع لمجريات الحرب الروسية الأكرانية ليصاب بالأسى والمرارة على ما يؤول إليه الوضع الإنساني من قتل وإعاقة وبتر، وتشريد للنساء والعجزة والصغار، وما يصيب البنايات والمنشآت والطرق ومرافق البنية التحتية من هدم وتخريب ودمار من وقع الصواريخ والرصاص والقنابل المنثالة عليها بلا هوادة ولا مزايلة بين حجر ولا بشر. فتقفز أسئلة إلى الذهن من قبيل: ما هي البواعث التي تجعل البشر يميلون إلى سحق بعضهم البعض؟ وهل الإنسان مجبول على الشر حتى يقضي على أخيه الإنسان دون أن يرف له جفن؟ هل المصالح والمنافع التي تجلبها الحرب أرقى من حيث الأسبقية على حياة الناس وكرامتهم؟ أم هل للحرب ما يبررها ويجعلها مستساغة في العرف البشري؟
نسعى في هذا البحث المقتضب إلى استقصاء مقاصد ودواعي الحرب، مقارنة بين فكر العرب القدامى والإسلام والغرب. ولإن طبيعة المواقع الإلكترونية لا تسمح بالتطويل سواء من حيث الحيز المشغول أو من حيث التخفيف على القراء فقد قسمته إلى ثلاثة أجزاء، أخوض في الأول فيما له اتصال بالفكر العربي لاسيما الجاهلي، حتى إذا انتجز تحولت إلى الحديث عن الأدبيات الإسلامية في التعاطي لمسألة الحرب وما يرتبط بها من إشكالات وشبهات عن الفتوحات، وبعد التراخي عنها أعرج على التصدي للحرب كما يراها الفلاسفة الغربيون تنظيرا وما يجري في الواقع ممارسة.
لا ريب أن أمر الحرب عند العرب مستوبل لا يستمرأ، له طعم مرّ مرارة الحنظل، كيف لا وقد ذاقت من ويلاتها الحظ الكبير وعانت من ملماتها الشيء الكثير. ومن الحروب التي سارت بها الركبان وصارت تلاك على كل لسان وتطاولت أزمنة عديدة بلغ بعضها أربعين سنة وكاد أهلها أن يفني بعضهم بعضا: حرب "البسوس" وحرب "داحس والغبراء" وحرب "بُعاث".
هذه التجربة الطويلة مع المعارك جعلت الشعراء ينشدون الأشعار ليدقوا ناقوس الخطر وينقذوا ما تبقى من أجيال من شر مستطر، فهذا زهير بن أبي سلمى يمدح صنيع رجلين حكيمين شريفين من قبيلتي عبس وذبيان هما الحارث بن عوف وهرم بن سنان، (يَمِينـاً لَنِعْمَ السَّـيِّدَانِ وُجِدْتُمَـا * عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ) قدما نور العقل على عتمة الثأر فأطفآ نار حرب "داحس والغبراء" بعد أن أديا من مالهما الخاص ديات القتلى الذين أصابهم شؤم المعارك وكاد الإفناء المتبادل يكون نصيبهما المحتوم، (تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَـا * تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ).
ليست الحرب - يستمر زهير مثربا على القوم ومحذرا من مغبة التمادي في النأي عن سماع صوت التلبيب والتفطين - إلا ما خبرتموها ولبستم كراهتها وشهدتم ذلك عيانا بل مازالت دموع الثكلى لم تجف من الجفون وآثار خطوطها مرسومة على الخدود، وما هذا الذي أقول بحديث مرجّم عن الحرب، ولا من أحكام الظنون، (وَمَا الْحَرْبُ إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُم * وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ)، إنكم إذا أوقدتم نار الحرب ذممتم، ومتى أثرتموها ثارت وهيجتموها هاجت. (مَتى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوها ذَميمَةٌ * وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فتَضْرَمِ). فحثّهم على التمسك بالصلح، وأعلمهم سوء عاقبة إيقاد نار الحرب، وأمعن في النذارة بأسلوب التهكم إذ إن المضار المتولدة منها والغلة المنتجة عنها كلها شر بخلاف الثمرات الطيبة والمنافع الكثيرة المجتناة من قُرى بلاد النهرين، (فَتُغْلِل لكم مَا لا تُغِلّ لأَهْلِها * قُرىً بالعراقِ من قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ).
لكن هل كانت عقول العرب حينها بهذه البلادة وأعينهم معصوبة عن الحق لهذه الدرجة حتى لا ينصبوا ميزان محامد ومساخط الحرب؟ ألا يعقل أن تكون ثمة أسباب وجيهة وعلل قائمة حفزتهم إلى الارتماء في أحضان الحروب مع ما فيها من رمي أفلاذ أكبادها وبذل مهجها؟
نسعى - بصورة عجلى - أن نستقصي بواعث الحرب عند الجاهليين اقتناصا من ديوانهم الشعري لاسيما معلقاتهم الخالدة:
حرب الدفاع ورد العدوان:
ينعت عنترة بن شداد أخلاقه بالسماحة ولين الجانب شريطة ألا يتعرض للظلم (أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي * سَمْـحٌ مُخالطتي إِذَا لم أُظْلَـمِ)، فإن اعترض سبيله باغ فإنه يتوشح سيفه ويلقي بكلكله في ساح الوغى لا يلوي على شيء صائلا جائلا (وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ * مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ)، ومن كال له الشتائم فلا حكم بينهما إلا حد السيف ولا شفيع إلا إراقة الدماء (الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتُمِهُمَا * وَالنَّاذِرَيْنِ إذا لَمَ الْقَهُمَا دَمِ).
ويزكي شعر الأعشى ما مال إليه عنترة، فهو أيضا يرد سبب القتال إلى دفع الجور والحيف: (إِنّا نُقاتِلُهُم ثُمَّتَ نَقتُلُهُم * عِندَ اللِقاءِ فَهُم جاروا وَهُم جَهِلوا)، ففلسفته في الحياة وما علمته الأيام ألا ينهى الجائرين عن جورهم، ولا يردع الظالمين عن ظلمهم سوى الأخذ بالشدة وعدم إظهار اللين، مثل الطعن البالغ الذي ينفذ إلى الجوف فيغيب فيه، (أَتَنتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنهَى ذَوِي شَطَطٍ * كَالطَّعنِ يَذهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالفُتُلُ).
وهذا عمرو بن كلثوم يرفع عقيرته في الآفاق محذرا من عاقبة الاجتراء على قبيلته بالظلم والجهالة ومتوعدا برد الصاع صاعين (ألاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنا * فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينا). ووعيده ذاك لا يقتصر على سائر الناس بل يخاطب به حتى ملوك العرب الذين يسعون بالإخضاع والإذلال في الناس: (إذا ما المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً * أبَيْنَا أنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينا). وإذا كانت طِلبة المقاتلين الأغيار هو السبايا ونهب خيرات القبائل الأخرى فإن همة قبيلة الشاعر عمرو هو اقتياد الملوك مكبلين في الآصار والأغلال:(فَآبُوا بالنِّهَابِ وبالسَّبَايَا * وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا).
حرب منع الأعراض:
يفتخر الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم بخبرة قبيلته "تغلب" في المعارك (بِأَنَّا نُـوْرِدُ الـرَّايَاتِ بِيْضـاً* وَنُصْـدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رُوِيْنَـا)، ويتمدح بأسبقيتهم وكفاءتهم إذ الحرب منهم على السجية يتقحمون فيها بالسليقة منذ نعومة أظفارهم ويركِّعون بها حتى أكبر العتاة (إذا بَلَغَ الفطامَ لنا وَلِيدٌ * تَخِرُّ لـه الجَبَابِرُ سَاجِدِينا)، وما هذا من الشاعر إلا حرب نفسية التي تسبق النزال في الميدان بغية إلقاء الذعر في الخصوم وإلا فإن القبيلة لا تهدف إلا لتوفر أعراض نسائها أن تستباح، بل يؤكد أن الرجال خلقوا ليقاتلوا عنهن، ويحذروا أن يفارقوهن أو يصرن إلى غيرهم، (عَلَـى آثَارِنَا بِيـضٌ حِسَـانٌ*نُحَـاذِرُ أَنْ تُقَسَّمَ أَوْ تَهُوْنَـا)، بل تلك النسوة أخذن العهد على أزواجهن على حمايتهن وهن يتكفلن بخدمة خيلهم: (يَقُتْـنَ جِيَـادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُـمْ * بُعُوْلَتَنَـا إِذَا لَـمْ تَمْنَعُـوْنَـا)، ونقض العهد معناه بالإضافة للشاعر ضياع معنى الحياة حقيقة ومجازا (إِذا لم نَحمِهنَّ فلا بقِينا * لشَيءٍ بَعدهنَّ ولا حَيِينا).
حرب استباقية وقائية
ولما كانت عرب الصحراء لا قانون يحكمها ولا نظام يلم شعثها فإن احتمال بدء العدوان كان سائدا حينها فإذا لم تتغذى بعض القبائل بخصومها صارت لقمة سائغة في طبق عشاء منافستها الطامحة للمجد الطامعة في خيرات الآخرين. وقد صور ذلك الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى ذلك، إذ رغم تحذيره من الثمرة المرة للحرب إلا أنه لا يملك إلا أن يقر بقانون الغاب المتفشي بين الأعراب، فمن لا يكفّ أعداءه عن حوضه بسلاحه هدم حوضه، ومن كف عن ظلم الناس ظلمه الناس، (وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ * يُهَدَّم وَمَن لا يظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ). حتى صارت الحرب هي القاعدة والسلم استثناء بل غدت عند بعض الشعراء سببا للتلذذ في الحياة ولا يطيب العيش إلا بالارتماء في غمارها، فهذا طرفة بن العبد يتغنى بذلك:
أنا الرّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعرِفونَهُ * خَشاشٌ كرأس الحيّة المتوقّدِ
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفتى * وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي
فمنهنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَربةٍ * كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبدِ
وكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحنَّبًا * كسِيدِ الغَضا نبَهتَهُ المُتورِّدِ
وظلت الحروب الأهلية والتقاتل بين الأقارب النهب والسبي مسترسلا مع مر الأعصار وتعاقب الليل والنهار حتى أغاث الله العرب بمجيئ الإسلام، فهل كفت الحروب بهذا الوافد الجديد؟ أم ظهرت دواع جديدة تبررها وتجد لها مستساغا. هذا موضوع مقالنا اللاحق قريبا بإذن الله تعالى.
 
الدكتور مولاي عمر صوصي/ خريج كلية الشريعة بفاس ودار الحديث الحسنية بالرباط