Wednesday 9 July 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي:"الكراب "… هل صمت الناقوس ؟

عبد الرفيع حمضي:"الكراب "… هل صمت الناقوس ؟ عبد الرفيع حمضي
في نهاية كل أسبوع،وكلما سمحت الظروف دأبت على القيام بجولة صباحية بين أزقة المدينة القديمة بالرباط، رفقة صديق لي حيث ننطلق عادة من “باب الأحد”، لنتيه في الزمن قبل المكان .وهو طقس بسيط نمارسه منذ سنوات، أحيانًا بحثًا عن سكينة، اوعن أثر في ذاكرة تُقاوم النسيان. وأحيانًا أخرى، بحثًا عن الصدى بين الأزقة العتيقة، لقادِمَيْنِ من دار "الضمانة”.
لكن هذا الأسبوع، وجدت نفسي أمام مشهد لم يكن عابرًا، ففي زاوية الطريق وقف رجل تجاوز الستين يحمل فوق رأسه " ترازة" وهي قبعة مزركشة بإبداع راق -رسومات وألوان -بلباسه التراثي الأحمر، وبَلْغَة مغربية ملونة وجرسه النحاسي اللامع ،رناته تعود بك إلى أيام الطفولة .
واقف هنا ، لا ليسقي المارة كما تعوّدنا على ذلك وانما ليستجدي عطفهم وأريحيتهم .
كانت “الكَرْبَة ” أو “السقاية” المصنوعة من جلد الماعز والمعلّقة على جنبه، فارغة. لا أثر للماء بها ،ولا للرطوبة الرمزية التي ميّزت هذه الشخصية عبر العصور.
كان صامتًا، بخجل وانكسار، يمد يده بدل أن يوزع كؤوس الماء النحاسية .لسانه لم يكن ينادي "برد أعطشان " وانما شي صدقة لله…."
"الكراب " ليس مجرد عامل موسمي أو شخصية فولكلورية تظهر في المهرجانات، بل هو رمز مغربي بامتياز، وحامل لذاكرة ممتدة في التاريخ . فقد ظلّ يشكّل جزءًا من النسيج الاجتماعي للمغرب، خاصة في المدن العتيقة والأسواق الشعبية، حين كان “الكرّابة” يُكلفون بسقي الناس في المساجد والساحات .
وبذلك فهم يعتبرون من “أهل الخير”، بل وتُنسب لهم في بعض الوثائق السلطانية أدوار في تقديم الماء للمسافرين والزوار في مواسم الحج والمناسبات الدينية.
وكان من المعتاد، في مغرب ما قبل الاستعمار، وخلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أن يُموَّل عمل "الكراب "من قبل الأوقاف أو المحسنين، كصدقة جارية. ولم يكن غريبًا أن نجد (الگرابة )في مداخل المدن وأبوابها، أو في المواسم، حيث يشكّلون جزءًا من طقس الضيافة المغربي ومظهرًا من مظاهر الكرم الجماعي.
ومع الوقت، تطوّر "الكراب" من “ساقي” إلى حامل لذاكرة جماعية،لا نجد شبيهًا له في باقي الثقافات ،ففي المشرق، كان السقّاء شخصًا بسيطًا دون طقوس أو رمزية، وفي الهند القديمة اندثرت مهنة “السقاة الجوالين” .
لكن خصوصية الكراب المغربي تتمثل في تحويل وظيفة بسيطة إلى طقس بصري واجتماعي متكامل. شخصية احتفالية، تُجسّد حضورًا جماعيًا أكثر من كونها مهنة فردية، وترتبط في المخيال الشعبي بالبركة والطهارة والخدمة العامة.
وما زاد من وقع هذا المشهد الذي صادفته ب “باب الأحد” واكيد صادفتموه في مواقع اخرى هو أنه أثناء زيارة سابقة للمقر الضخم لوزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، استوقفتني وزملائي بالطابق الخامس لوحة فنية من الحجم الكبير تكريما لبلادنا يتوسطها "الكراب " في كامل أناقته كرمز مغربي حاضر في قلب عاصمة القرار السياسي العالمية ، بينما اصبح هنا، متسوّل مهمل.
لقد آن الأوان لمراجعة هادئة وعميقة لمقاربتنا للتراث الشعبي، ليس لحمايته من الزوال فحسب، بل لمنحه حياة جديدة داخل مجتمع يتغيّر بسرعة. بدل تجميده في المتاحف أو استهلاكه في المواسم السياحية،
فقط ،بل يمكن إدماجه بذكاء في التعليم، والسياحة الثقافية، والاقتصاد الاجتماعي، والصناعات الإبداعية.
فالكراب ، يمكن أن يتحوّل إلى مرشد ثقافي، أو وسيط تربوي، أو عنصر تفاعلي في فضاءات الأطفال والمهرجانات. بدل أن نراه صورة باهتة على هامش المدينة.
فالتراث ليس موضوعًا للماضي، بل أفقٌ مفتوحٌ للمستقبل. والكراب يمكن أن يتحوّل من رمز مهدد إلى قوة ناعمة تصنع الفخر، وتحفّز الإبداع، وتؤسس لسياسة ثقافية وازنة تؤمن بأن الهوية ليست ما نحتفظ به فقط… بل ما نحياه ونبنيه كل يوم .