Tuesday 8 July 2025
كتاب الرأي

نبيل عادل: الفساد يُحارب الدولة... والدولة تنهزم بشرف!

نبيل عادل: الفساد يُحارب الدولة... والدولة تنهزم بشرف! نبيل عادل

في المغرب، لسنا بحاجة إلى أفلام هوليوودية عن المافيا، ولا إلى مسلسلات نتفليكس عن صفقات الظل. يكفينا أن نشاهد نشرات الحكومة، وهي تستعرض بكل وقار زائف، ما تُسمّيه بـ"الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد". لدينا دستور يُقدّس "تكافؤ الفرص" و"المناصفة"، ولدينا هيئات رقابية ترسم الخطوط، ورأي عام "يغلي" في الفضاء الأزرق. لكن، ويا للعجب، يبدو أن الفساد لا يزعجه هذا السيرك... بل يُصفّق له مستمتعاً من الصف الأول!

وكما قال أحد رؤساء الحكومات – سيُخلّده التاريخ لا لحكمته، بل لنكاته –: "ماشي حنا اللي كنحاربو الفساد، الفساد هو اللي كيحاربنا!"، والحقيقة؟ الفساد لم ينتصر فقط، بل أصبح "تايسون" في حلبة الملاكمة الحكومية. لا ينتصر بالنقاط، بل بالضربات القاضية.

خذوا مثلا ذلك المسؤول الذي أمضى سنوات يحدثنا ببرودة جليدية عن تدهور تصنيف المغرب في مؤشرات الفساد، دون أن يرف له جفن. لم يُحرجه انحدار المغرب في التصنيفات العالمية، بل ظل يقدّم الأرقام كما لو انها تخص بلداً آخراً. غير أنه ما إن قررت الحكومة تقليص ميزانية هيئته، حتى انتفض ضميره فجأة وقدم استقالته "المؤلمة". المصادقة الساخرة؟ أن نفس الحكومة التي خفّضت ميزانيته، دخلت كتاب غينيس في تضارب المصالح و"المشاريع العائلية".

أما جمعيات مثل "ترانسبارنسي المغرب"، فرفعت الراية البيضاء بعد سنوات من لعب دور شاهد الزور في لجنة وطنية لمكافحة الفساد لا تكافح حتى الملل. اكتشفوا في النهاية أن الحكومة تناقش الفساد كما يناقش الطالب الكسول نيته في مراجعة دروس الامتحان: يشتري الأقلام، يفتح الكراسات، يلتقط صورة "سيلفي" أمام المراجع، ثم ينام مطمئناً أن النية الحسنة كافية لحصد أعلى النقاط وأن "العلم في الراس وليس في الكراس".

ومؤخرا، ذلك الأستاذ الجامعي الذي ضبط وهو يبيع الشهادات كما بيعت "التذاكر السوداء" في مباريات المغرب خلال كأس العالم 2022، أو ذلك الذي جعل من النقاط سلعة تفاوضية في بازار الشرف مع الطالبات. هل فتحت الحكومة ورشاً لإصلاح جذري للمنظومة الجامعية بعد هذه الفضائح؟ بالطبع لا. اكتفوا بجولة استنكار موسمية في الإعلام، ثم عادت المنظومة إلى سابق فسادها كأن شيئاً لم يكن، وكأننا نعالج السرطان بالأسبرين.

وهذا غيض من فيض.

أما الإنجازات، فـحدث ولاحرج:

  • لا قانون لتجريم الإثراء غير المشروع... لأن بعض الأغنياء الجدد لا يحبون المفاجآت.
  • لا تشريع لتضارب المصالح... لأن المصالح متشابكة، مثل خيوط الصوف في حضن جدّة.
  • تعديلات للمسطرة الجنائية تُعقّد التبليغ عن نهب المال العام... لأن الشفافية تُسبب "الحكة" للمسؤولين.
  • إشاعات عن صفقات و"كريمات" وسلالم إدارية تؤدي إلى حسابات سويسرية، والجواب الرسمي؟ "سكوتي حسن".

وإذا أردنا أن نُنزّل الحكومة الحالية في سجلّ التاريخ، فلن نجد لها موضعًا يليق إلا في ذيل قائمة من حاولوا – أو تظاهروا بمحاولة – مكافحة الفساد. فهي، بكل تواضع، صاحبة أسوأ حصيلة في تاريخ الحكومات المغربية على هذا الصعيد. كيف لا؟ وأعضاؤها تفننوا في تحطيم كل الأرقام القياسية في تضارب المصالح، والإثراء العجيب في ظرف قياسي، والتطبيع الكامل مع مظاهر الزبونية والريع الإداري. لم يكتفوا بالصمت عن الفساد، بل أجهزوا على ما تبقّى من مؤسسات تكافحه. بلاغات الهيئة الوطنية تُقابل بالصمت، وتقارير مجلس الحسابات تُرمى في الأدراج، أما دعوات الإصلاح فتُعامل كما تُعامل الطفيليات: بالإقصاء والعزل والتجويع المالي. وزراؤها برعوا في اختراع كل الآليات الممكنة لمحاربة كل ما من شأنه إزعاج هذا الوحش المخيف، الذي ما عاد يختبئ، بل يضرب جهارًا نهارًا في صميم الدولة والإدارة والمجتمع.

وهكذا، تتحول مكافحة الفساد إلى عرض مسرحي عبثي: نعلّق اللافتات، نعقد الندوات، نصدر التقارير، ثم نعود لننام مطمئنين في حضن الفساد… كونه "ولد الدار" ويجب إكرامه.

الفساد عندنا لا يُقاوَم... بل يُدَرَّس. من الروض إلى الدكتوراه، يتعلّم المواطن أن النجاح لا يُقاس بالشهادة، بل بالقرب من صانع القرار. والراشي؟ بطل. أما من يجرؤ على التبليغ؟ مشبوه قد يُتابع بتهمة "تشويه صورة البلاد".

ألا يدرك المسؤولون أن لا نموّ اقتصادي، ولا ثقة، ولا استثمار، يُمكن أن يزدهر في بيئة يُكافَأ فيها الفاسد وتُقصى فيها الكفاءة؟ أي إقلاع هذا الذي تُبنى مدرجه فوق مستنقع من الرشوة والمحسوبية؟

كيف نتحدث عن "الإدارة الرقمية"، ونحن نُدير رخص البناء والمقاولات بنفس أدوات الحاكم بأمر الله الفاطمي؟ كيف نُقنع الشباب بحلم الدولة الحديثة، وهم لا يرون من هذه الدولة سوى الوجوه المكفهرة والجيوب المنتفخة؟

الدولة لا تُبنى بخطب الوزراء ولا بورشات الاستشارة، بل حين تخضع للقانون الذي تفرضه على المواطنين، وتُعلن حربًا بلا هوادة على الفساد، لا صُلحًا ولا مساومة.

أما أن نتحدث عن نموذج تنموي ونحن نتفاوض مع الفساد أكثر مما نُحاربه، فذلك يشبه من يبني مطارًا في وسط الغابة، ثم يشتكي: "علاش الطيارات ما كاتقلعش؟"

نحن لا نحارب الفساد... نحن نُربيه، نُغذّيه، نُرقيه، نُعيّنه، ثم نخرج بتقرير رسمي يُحمّله مسؤولية "ضعف الالتزام المجتمعي".

نعم، كما قال أحد الظرفاء:
"الفساد في المغرب لا يُقاوَم… إنه يُقايَد!"

 

 نبيل عادل،  أستاذ باحث في الاقتصاد والعلاقات الدولية

عضو المجلس الوطني للحركة الشعبية